على مدى اكثر من سبعة عقود مضت، وعلى الرغم من كل التحولات التي جرت اقليميا وعالميا وبالتالي فلسطينيا وعربيا ايضا، بقيت القضية الفلسطينية قضية مركزية للسواد الأعظم من الشعوب العربية ولجميع حركات التحرر العربية والعالمية، بالإضافة إلى شرائح واسعة ومهمة من المهتمين والمشتغلين بالثقافة والفكر. بطبيعة الحال نحن لا نتحدث هنا عن تلك الشرائح التي ظهرت كالفطر على خلفية تلك التحولات، وفي مقدمتها شرائح تسلقت موجة الليبرالية المتوحشة ومفاهيم اقتصاد السوق التي جرى تسويقها طيلة العقود الثلاثة الماضية باعتبارها مفاهيم ستحقق للبشرية المزيد من الازدهار الاقتصادي والتعاون وستعزز بدورها ممارسات حقوق الانسان والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، والتي اكتست كما تابعنا جميعا، زخماً مضاعفاً بشكل خاص بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار المنظومة الاشتراكية لاحقاً، وما احدثه كل ذلك من تراجع مهول في دور حركات التحرر عبر العالم وفي عالمنا العربي على وجه التحديد، وتلك الشرائح “المتلبرلة” انما كانت في واقع الحال تمارس هروباً وسقوطاً لم يتورع عن ممارسة كثير من وجوه الابتذال والاغتراب القائم أساساً على كثير من الخواء الفكري، علاوة على الانبطاح دون مسوغات مفهومة رغم انتهازيتها الواضحة.
وبالفعل جاءت الأحداث الأخيرة في حي الشيخ جراح وباب العمود وما يجري تحديدا من تهويد قسري في مدينة القدس المحتلة وفي قطاع غزة والضفة الغربية وعموم الأراضي الفلسطينية حيث يستمر الكيان الغاصب في قضم ومصادرة الأراضي الفلسطينية والبيوت والمزارع والأحياء الفلسطينية، وبصلافة وغرور غير مسبوقين، مستفيدا مما توفر له من مناخ عربي منهزم، خائف ومتساقط على المستوى الرسمي، أو ربما غير مبال ومنشغل بهمومه وقضاياه المتعاظمة على المستوى الشعبي. إلا أن الأحداث الأخيرة التي تسببت في اشعالها سياسات ونزوات وغرور اليمين الصهيوني المتطرف وما يلقاه من دعم مستمر ومتنام من قبل الإدارة الأميركية والقوى الإمبريالية، حيث تابع العالم زيادة سطوة سياسة “الأبارتهايد” وعنصرية الاحتلال التي شحنت قطعان المستوطنين بكمٍ مهول من الحقد والكراهية مما دفعهم إلى تجاوز كل الخطوط الحمراء، والاتفاقيات والمعاهدات والقوانين والقرارات الدولية بشأن القضية الفلسطينية.
وكانت طموحات اليمين الاسرائيلي تمنيه بأن كل الظروف باتت مهيأة تماما لممارسة سياساته تلك في ظل صمت عربي وعالمي، وتطبيع وعلاقات ثنائية مع الجانب الرسمي العربي حيث شاهدنا كيف يفاخر بها رئيس وزراء الكيان الغاصب إبان حملته الانتخابية الأخيرة أمام شعبه والعالم وهو يسعى لاعادة انتخابه مجدداً.
لكن ها هي الظروف الموضوعية والواقع الفلسطيني على الأرض مدفوع بكمٍ هائل من المعاناة ينسف كل طموحاتهم وآمالهم ويعيد القضية الفلسطينية إلى صدارة واجهة الأحداث عربياً وعالمياً أيضاً، دون أدنى انتظار لأي موقف رسمي عربي سواء من الأنظمة أو حتى من قبل الجامعة العربية، وفجأة يستعيد الشارع العربي في كل المدن والأحياء العربية، وعلى الرغم من انشغالاته وهمومه، حيويته ومساندته للحق الفلسطيني وبزخم استثنائي هذه المرة، لعل ابرز مطالبه رحيل الاحتلال وانهاء دولة “الأبارتهايد”، تلك الدعوة التي لاقت ولازالت تلاقي صدى كبيراً في غالبية مدن العالم، حيث أثبتت مؤسسات المجتمع المدني والأحزاب في العديد من دولنا العربية والعالم حيويتها في رفض سياسات التهويد القسري والمطالبة برحيل الاحتلال وشجب ممارساته العنصرية، الأمر الذي أوقع الكثيرين من دعاة التطبيع والمطبعين في حرج شديد، خاصة عندما تزداد مطالب المقاطعة لبضائع الاحتلال واغلاق السفارات في العديد من عواصم العالم، وعندما تتخذ دول أوروبية وازنة قرارات بوقف التعاطي تجارياً مع الكيان المحتل، وتضطر حكومات تلك الدول للإصغاء لمطالب مؤسساتها المدنية وأحزابها وقواها المجتمعية حتى في الداخل الأميركي والأوروبي، وتستنفر شخصيات سياسية واقتصادية وفنية ورياضية على مستوى العالم، موجهة انتقاداتها ورفضها لممارسات الاحتلال وفضحه عبر وسائل الإعلام المختلفة، هنا يصبح الأمر أكثر مسؤولية سياسية وأخلاقية وتضامنية لدى دولنا العربية وشعوبها التي برهنت مراراً على وقوفها مع الحق الفلسطيني.
بطبيعة الحال لا نريد أن نبالغ في توقعاتنا وأحلامنا بقرب زوال الاحتلال، لكن علينا أن نتذكر أن نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا كان يتمترس كثيراً خلف ما كان يستمده من دعم ومساندة من دول عظمى ومن فيتوات وقرارات مجلس الأمن، ومن دعم إمبريالي عبر المال والاقتصاد والسلاح، لكنه تهاوى وأصبح جزءا من تاريخ مقبور لا سبيل لعودته، وحتماً سيرحل الاحتلال الاسرائيلي باعتباره وصمة عار في جبين الانسانية ولن تحميه قببه الحديدية ولا صواريخه العابرة ولا قنابله النووية ولا دعوات المطبعين والمنبطحين، ولا حتى دعم الإدارات الأميركية المتعاقبة، وعلينا أن نكون أكثر إيماناً بعدالة قضية شعبنا الفلسطيني وحقه المشروع في استعادة أرضه ومقدساته مهما طال الزمن.