لماذا عندما تتأزم أوضاع اي بلد عربي، او غير عربي، ويكون على حافة انهيار اقتصادى، وتتدهور أوضاع مواطنيه المعيشية، وتكتسحه احتجاجات شعبية عارمة، نجد قاسماً مشتركاً يفرض نفسه تعبر عنه الشعارات التى ترفع والداعية الى العدالة الاجتماعية، والتصدى للبطالة، ومحاربة الفساد والسرقات والمطالبة بمحاكمة الفاسدين والسارقين، ووضع الأمور فى نصابها الصحيح بإبطال فعل ومفعول الفساد، قبل القفز من شفير الهاوية الى أعماقها!
فى هذه البلدان، الواقع الفاسد ضارب بأطنابه فى كل أمر وشأن، له تاريخ طويل وحافل، وفى ظل هذا الواقع بات الفساد كما لو انه حاجة وطنية جامعة، أو شرّ لا بد منه، صحيح أن الفساد بكل تجلياته ليس حكراً على المجتمعات العربية، ولكن خارج هذه المجتمعات تجد الآليات والأجهزة التى ترصد وتتابع وتساءل وتحاسب وتخرج بنتائج، هناك لا يجعلون حربهم حرباً شكلية على الفساد، ولا يطلقونها لخدمة أهداف سياسية او للتغطية على فشل هنا او هناك، بل يضعون الضوابط التى تحول دون توغل الفاسدين فى مفاصل الدولة، والأمن، والقضاء، والبرلمان، وتتضافر الجهود الرسمية مع جهود المجتمع المدنى لخوض الحرب على الفاسدين.
وفى بعض تلك المجتمعات نجد فيها منظومة متكاملة تعنى بالتصدي للفساد وتتابع أداء البرلمانيين وتراقب نزاهتهم البرلمانية وتكشف اي تكسب شخصي من وراء عملهم البرلماني، ومن ضمن هذه المنظومة انشاء هيئة مستقلة لمكافحة الفساد، وللعلم والتذكير فى آن واحد مشروع انشاء مثل هذه الهيئة كان ولازال حبيس أدراج المجلس النيابي منذ عام 2007، وقد عرض على المجلس فى اكثر من فصل تشريعى، ووجدنا نواباً يرفضونه بذريعة عدم الحاجة اليه – تصوروا – ونواباً تفننوا بجعله مشروعاً فى مكانه يراوح وبتواقيع معروفة وكأن هناك من يعوّق او يعرقل أي خطوة تحجّم الفساد.
نعود الى منطقتنا العربية، فى نطاقها تابعنا ولا زلنا نتابع ما يحدث فى لبنان والعراق وقبلهما فى تونس والجزائر، وكيف رفعت شعارات معبّرة تتوجه الى أرباب الفساد، من نوع “طلعت ريحتكم” ، و”كلكن يعنى كلكن” فى لبنان، وعلينا أن نلاحظ أن الشعار انطلق من بلد يضم 18 طائفة، وهذا يعنى أن ملف الفساد تجاوز التباينات الطائفية بين المتظاهرين ووحّد اللبنانيين، هناك شعارات اخرى مكتملة فى المعنى والهدف مثل “يا فاسد اطلع بره”، و”كلا .. كلا للفساد .. نعم .. نعم للإصلاح”، “اقلعوا الفاسدين من الجذور” فى العراق، و”ما نيش مسامح”، و”كنس السلالم يبدأ من الأعلى” فى تونس، وشعارات مثل “انقلعوا كلكم” وقيل انه شعار مستوحى من ذلك الشعار اللبناني، هناك ايضاً شعارات “حرروا البلد من اللصوص”، و”يا قضاة عليكم بالطغاة” وغيرها من الشعارات التى رفعت فى الحراك الجزائري.
نأتي إلى ما جرى ويجرى فى الزمان والمكان، فى لبنان والعراق والجزائر وتونس وبلدان اخرى، حيث صار بوسع المرء أن يلمس كثرة الحديث، وكثرة الوقائع المتصلة بالفساد والرشوة والتكسب غير المشروع. فى لبنان، كمثال، وجدنا مطالبات شعبية ترفع شعارات تدعو إلى لجم الفساد مواجهة فيروس الفساد وحماته والضالعين فيه ومن جعلوه يعشعش ويسرح ويمرح فى كل شأن ومجال وميدان، ووجدنا سياسيون يعلنون: “سنجعل هدف محاربة الفساد وملاحقة الفاسدين أيًا كانوا من أهم الأولويات التى يجب ان تسهر عليها الدولة لإنقاذ البلاد من أزماتها الخانقة “، ووجدنا من يشكك ليس فى ذلك الكلام فحسب بل فى كل الشعارات التى تتبنى هدف محاربة الفساد، والتشكيك فى صدقية من لا يتوقف سيل تهديدهم بمحاربة الفساد، ومساءلة الفاسدين ومحاكمتهم، بل وجدنا من يعلن بان ليس من نهاية للفساد، والخلافات بين اهل السياسة ليست على الفساد، بل على الحصة فيه ، وهو لم يعد فضيحة أبداً ، مهما تطاول عليه “رعاع” الأخلاق والقيم، كونه اصبح اسلوب حياة، و”قيمة” ذات ركائز متينة الى درجة تحويل المقاومين للفساد فى كثير من الحالات الى متهمين!
فى العراق كمثال آخر، نجد نفس المشهد تقريباً، كل مظاهر الرفض والاحتجاج للفساد كانت ولازالت حاضرة وبقوة ، الكل يطالب بإنقاذ البلد وبمطاردة الفساد وأهله وصحبه وحماته والمختبئين خلفه، فيما الواقع يكشف عن وقائع صادمة، وجدنا من هم معنيون بمحاربة الفساد متهمون بالفساد، وكان صادماً ان يظهر نائباً عراقياً قبل سنوات قليلة وعبر شاشة التليفزيون فى مشهد لا يزال صداه يدوى وهو يقرّ ويعترف بمنتهى الصراحة والوضوح ليس بفساده فحسب، بل بفساد من حوله من برلمانيين وسياسيين ورجال دين، وكثر ممن اشتركوا فى جوقة هجاء الفساد ،كلهم مارسوا الفساد بمواصفات عالية الجودة والوضوح، ومن حولهم إما شريك معهم، او متواطئ معهم، او يخاف منهم، او عاجز أمامهم.
ذلك قليل من كثير .. والكثير يصل بنا إلى جوهر المشكلة – المعضلة – المأساة التى تجعل الفساد باقٍ على عرشه، مطمئن إلى ديمومته وبكل بجاحة ووقاحة، الكل يواجه، ليس فى البلدين المذكورين فحسب، بل فى معظم بلداننا العربية، وهى أن المعارك ضد الفساد لم تكن نزيهة بالكامل، أحياناً تكون معارك تصفية حسابات، وأحياناً صراع إرادات، أو تبيض صفحات، أو حروب فاسدين ضد فاسدين.
لذلك لم يكن غريباً أن نجد من هم وراء صناعة الفساد وهم يقدمون أنفسهم كمحاربين للفساد، وتجد من يمثلون شعوبهم فى مجالس نيابية، وأول من يفترض انهم يتصدون للفساد وقد اصبحوا جزءاً لا يستهان به من منظومة الفساد، وعندما يصبح الفساد شاملاً وعاماً وينمو ويترعرع كميكروب فى اي بلد، وتصبح المناصب والوظائف من الأصول الثمينة، يتوسع الطلب عليها بذريعة المحاصصة، وتنشأ سوق نشطة لمناصب الدولة تدّر ايرادات، وتخلق مناصباً، ويصبح لكل منصب ثمن يناسب المكانة الوظيفة، أو تخلق مناصب للأتباع ومن يراد تنفيعه من الطائفة أو المحاسيب أاو الأزلام، وحين تمنح مزايا غير مستحقة فى مشاريع ضخمة، وتتعدد مزاريب الهدر التى لا تنتهي والتى يبدو أنها تضاعفت فى ظل جائحة كورونا التى اعتبرها البعض بأنها شكلت ضربة حظ للفاسدين النافذين الذين توسعوا أكثر وأكثر عبر شبكات اخطبوطية جعلتهم يواصلون مهام انحرافاتهم فى التزوير والغش والاختلاس وتهريب الأموال والصفقات المشبوهة، ومن هؤلاء من أثبتوا براعتهم فى تحويل أزمة كورونا الى فرصة !
أمر آخر سئ، بل مفجع حين يحوّل البعض حربه على الفساد إلى حرب على الخصوم السياسيين وتكون الشعوب أمام واقع تتغلغل داخله لوبيات وشبكات فساد تُبيّض المخالفات والسرقات والمصالح الغير قانونية، وتنجح فى اختراق مؤسسات تشريعية وحكومية ورقابية وأمنية، وفاسدين معروفين يشار لهم بالبنان بالأسماء والمواقع والوقائع، حينها نكون وللأسف امام مهام تشبه المستحيل، لا تختلف عن مهمة دون كيشوت فى محاربة طواحين الهواء.
لنعلم، ونتذكر، ونذكر، أن بلدنا وبلداناً عربية كثيرة عانت ولا تزال تعانى من الفساد بكل أنواعه وأشكاله وأحجامه ومستوياته، فساد يروّج لخدماته بكل الوسائل والأساليب، ويقر الجميع بوجوده وتفشيه، وللفساد فى عالمنا العربى تاريخ طويل وحافل، وبات واضحاً ان المعركة ضد الفساد هى جزء لايتجزأ من معركة الإصلاح والتنمية، بل هى البوابة الأهم للإصلاح، فهو يعنى التمييز والظلم وعدم احترام كرامة الانسان وينتهك حقوقه، وحرمان الناس من مقومات الحياة الكريمة، ويمس التنمية الاجتماعية والاقتصادية ويزيد الفقر، ويعيق الاستثمار، ويضر بالاقتصاد، ويقوّض الديمقراطية وسيادة القانون، إلى آخره.
ما ليس مفهوماً استمرار ترك العنان للفساد بكل تجلياته ليستشرى ويتوحش فى الكثير من المجتمعات، يواجه فى احسن الحالات بشعارات وتقارير لهيئات رقابية منزوعة الدسم، ووعود تخلق حالة انطباعية، مجرد حالة انطباعية بان هناك ارادة ومحاربة فعلية للفساد، وقمة المأساة حين يقف من يشكلون أساس العّلة بمظهر المحاربين للفساد، قد نجد من يتراشق مع آخرين تهم الفساد، ونكتشف ان هذا التراشق هو نوع من المناكفة السياسية، او مباراة لاستدرار المزيد من الفساد، وهؤلاء نفّسهم طويل، وقادرين على التلون الحربائي، والتأقلم السريع مع كل الأجواء، وقد نجد منهم من يعاقب من يمارس الفساد فقط لأنه يتم دون علمه او خارج عن ارادته او لعدم إشراكه فى عوائد الفساد، وكم هو بالغ فى الدلالة والمعنى والأسى حين تكون اي حركة ضد الفساد محاولة لتبييض صفحات فاسدين، او صراع على ادارة الفساد.
كم هو بالغ الألم والسوء حين يسعى البعض الى إيهام الناس بان كثرة الحديث عن الفساد كماً ونوعاً يسئ الى سمعة البلد والى مناخ الاستثمار وينفّر المستثمرين ويضر بالتنمية والاقتصاد، وأن الفساد شر لابد منه، والطريف والعجيب والمؤلم ان نجد من ذهب إلى القول إن الفساد حاجة وطنية جامعة وهو مطلوب بشرط تنظيمه وتوسيع قاعدة المستفيدين منه، وكأنهم يدعون الى ممارسة الفساد بعدالة وجعل كل شئ قائم على الفساد والإفساد، ومحاربة الفساد بالفساد، وكأن الفساد كنز لا يفنى، إلى هذه الدرجة من الجرأة والوقاحة وصلنا، وقصة النائب العراقى إياه الذى اعترف علناً بفساد الكل لا تنسي، فهى تؤكد على ذلك وبأن مقامات الفاسدين محفوظة.
المعركة ضد الفساد، المحمى والمخفي وحتى المرئي، كانت وستظل اكبر وأعقد وأشرس مما نظن، وأسوأ وأخطر ما فى موضوع الفساد ان يكون شعار محاربة الفساد، فارغ من الأهداف، ضجيج كلام وصراخ فى مناخ الفساد الطلق وكأن ليس له من نهاية، تبقى المراهنة على ان المعركة ضد الفساد ليست مستحيلة، فقط اذا توفرت الإرادة والعزم .