وقعت الحكومة السودانية في مارس /أذار الماضي وثيقة اعلان مبادئ مع الحركة الشعبية لتحرير السودان لتمهيد الطريق امام إبرام اتفاق نهائي للسلام من خلال ضمان حرية العبادة للجميع وفصل الدين عن الدولة.
اتفق الطرفان على العمل لتحقيق سيادة السودان واستقلال ووحدة أراضيه، وبناء جيش مهني موحد. كما اتفقا على أن السودان بلد متعدد الأعراف والديانات والثقافات، لذلك يجب الاعتراف بهذا التنوع وإدارته ومعالجة مسألة الهوية الوطنية، وأكدا على تأسيس دولة مدنية ديمقراطية فيدرالية، تضمن حرية الدين والممارسات الدينية لكل الشعب السوداني وذلك بغض النظر عن الهويات الثقافية والإثنية والجهوية عن الدولة.
تذهب بعض التحليلات إلى أن مسألة فصل الدين عن الدولة ليست محل جدل في بلد مثل السودان في الوقت الراهن، وذلك لسبب بسيط هو أن المواطن السوداني أدرك بأنه لا يمكن أن تستخدم النصوص الدينية لاستقطاب الناس العاديين، ولاستنزاف الموارد وأن تكون مصدراً للترويج الإعلامي، وتشويش شخصية الإنسان. فالدين جزء من ثقافة المجتمع وتقاليده وأعرافه، كما أن التنوع في الثقافات أسهم في وجود تنوع عند تناول قضايا الدين.
مقابل ذلك رفض الاتحاد السوداني للعلماء والأثمة والدعاة فصل الدين عن الدولة، متهماً رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ب”تجاوز حدود ما أنزل الله”. وحينما نتحدث هنا عن العلمانية يمكن القول لا يبدو الأمر بهذه السهولة، باعتبار أن قضية العلمانية والجدل حول هوية الدولة من أكثر القضايا الشائكة، والتي عادة ما يثار انقسام حاد حولها، فهذا الجدل رافق السودان منذ ستينيات القرن الماضي وتسبب بأزمات وصراعات وانقلابات، ودخلت أطراف عربية ودولية على خط التجاذبات الداخلية.
عندما يقال إن العلمانية تقضي على الحروب الدينية وتزيل مسبباتها لآنها تضمن لكل انسان ممارسة نشاطه العقدي يقصد من وراء ذلك أن الدولة لن تتدخل، بل تضمن لكل انسان مزاولة معتقده، فالعلمانية ليست كما يروج لها تجار الدين بأنها ضد الدولة، وإنما هي ضد استغلال الدين.
ومن هنا تكتسب قضية فصل الدين عن الدولة أهمية خاصة في أي مجتمع من المجتمعات، وخاصة تلك التي ما تزال يسيطر عليها الفكر العقائدي، ويكتسب فيها رجال الدين دوراً مبالغاً فيه، مستفيدين من مفهوم القداسة الذي تكتسبه الشرائع الدينية، هذه القداسة التي تسحب من الشرائع ليرتديها الافراد، وبذلك تنتقل سلطة الله إلى سلطة الافراد مما يخلق تعارضاً بين ما هو دنيوي وما هو إلهي، وتسخير الشريعة لخدمة الحاكم، ما يؤدي إلى شكلٍ عميق من الطغيان والاستبداد سينعكس على مقومات الدولة، وحتى سينعكس على مفهوم الديانات بالوقت نفسه.
العلمانية مفهوم ليبرالي يشير إلى فصل الدين عن الدولة، والمجتمع المدني عن المجتمع السياسي، بمعنى ألا تمارس الدولة أي سلطة دينية، وألا تمارس الكنيسة والجامع والمعبد أية سلطة سياسية أيضاً، وربما هذا التعريف منطلق من المقولة الشهيرة التي صاغها محمد عبده: “لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين” وكذلك مقولة سعد زغلول الشهيرة “الدين لله والوطن للجميع”.
ولكن هل يعني فصل الدين عن الدولة تنحية الدين عن الحياة الاجتماعية؟ بالطبع لا، فالدين تاريخياً واجتماعياً هو أهم المكونات الهامة للقيم والشعائر والطقوس التي تنظم شئون الحياة الاجتماعية والدينية.
إن فصل الدين عن الدولة والسياسة يعني احترام الدين وقيمه الروحية، ويعني ايضاً حماية الدين والعقيدة من العابثين بهما وعدم السماح باستغلال الدين والشعائر والطقوس من أجل اشباع المصالح الخاصة وبصورة خاصة من تسلط وعاظ السلاطين على رقاب الناس عن طريق رفع شعارات “دينية” لاستغلال عواطف الجمهور، وإقحام الدين في السياسة يهدف دوماً إلى تحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وإقصاء الآخر.
صحيح أن الاتفاق بشكل خطوة بالنسبة لمستقبل السودان، ولكن هذا لا يعني أن كل العقبات أمامه قد انتهت، أو سوف تنتهي في المستقبل القريب، لأن ثمة إشكاليات لا تزال تمثل منغصاً أمام الاتفاق بينها. كما تَردد في الصحافة السودانية فإن “تحالف الحرية والتغيير” الذي يضمّ قوى مختلفة ليس على وفاق تام حول هذه القضية، والثانية تخص المؤسسة العسكرية التي تبدو قيادات نافذة فيها بمثابة “الحرس المؤتمن” على الشريعة، والمعضلة الثالثة تتجسد في وجود حركات إسلامية متشددة في دارفور أو غيرها، ربما تجد مبرراً في خروجها إذا احتل فصل الدين عن السياسة الواجهة السياسية وما يترتب على ذلك من توتر يجرف معه ما تحقق من تقدّم على مستوى السلام، ويعيد البلاد إلى أجواء التجاذبات والانقسامات بين الإسلاميين وغيرهم.
الخلاصة باختصار، إن فصل الدين عن الدولة بقدر ما هو مهم لخلق الدولة الحديثة، دولة المواطنة والقانون، سيكون مهماً أكثر للحفاظ على العقائد الدينية بعيدة عن استثمار الساسة.
إن أهمية الاتفاق، كما عبر مؤيدو فصل الدين عن الدولة تكمن في أنه للمرة الأولى في تاريخ السودان يحصل اجماع حول هذه القضية، لأنها تمهد الطريق أمام سودان جديد…سودان يضع خطواته الأولى على طريق الديمقراطية.