إلى حد الآن، كُل ما قام به اليسار البحريني هو نقد مظاهر الإنتاج الرأسمالي الكولونيالي في البحرين، بينما المطلوب منه تغييره. إلى حد الآن، كُل ما قام به هذا اليسار هو حمل هذا النقد من دون خطة، دون وجهة، دون مستقبل؛ أنه لم يحمل نقده إلى آخر مداه، ايّ إلى استنتاجاته النهائية وهو ضرورة التحويل البنيوي للأسس المادية للعلاقات الإنتاجية الرأسمالية نفسها.
إن الحركات السياسية، ولا سيما الأحزاب، تُقاس من برامجها السياسية؛ ولكن البرنامج السياسي لا يُمكن أن يقول للجماهير ما عليها أن تقوم به، بقدر ما الجماهير لها القدرة على أن تكون دائماً متقدمة بخطوة. ولما كان قياس أي حركة سياسية يأتي من برنامجها السياسي، إذن لن يختلف أحد معي بأن اليسار القائم لا يمت بصلة للاشتراكية.
اليسار لا يتحدد بحزب واحد أو جماعة واحدة، ولكنه بحاجة إلى حزب اشتراكي قوي يفعل الحركة اليسارية ككل، ايّ يكون عاملاً من عوامل تصادف كل الأطراف السياسية التقدمية التي لها مصلحة في تقويض الرأسمالية.
سأذكرُ في المقالات القادمة لهذه السلسلة بعض المقومات السياسية والاقتصادية والآيديولوجية لوجود مطالب اشتراكية لعلها تنبه القارئ ببعض متطلبات وجودها في البحرين، دون أن أدعي بأن في حوزتي هذا البرنامج إذ أن ذلك سيعني فوراً وجود تنظيم اشتراكي حقيقي في البحرين؛ وهذا يخالف واقع الأمر.
لينتبه القارئ: الاشتراكية ليست دستوراً دينياً يتوقع أن يأتمر الناس به ويهتدي عبره؛ إنها ليست نظاماً جاهزاً ينتظر التطبيق متى ما سنحت الفرصة لذلك. على العكس، إنها الطريق الذي تسلكه الجماهير، النضال اليومي الذي تحمله، نحو التحرر من العمل المأجور ورأس المال؛ لذا فإنها – الجماهير- تبتكر حلولاً جديدة كل مرة، تحاول أن تفهم الظروف المحاطة بها، تتقدم بصراعات جديدة خلاقة لا يُمكن التنبؤ بها. اسم هذا الابتكار هو الاشتراكية، وغير ذلك لن نكون سوى أمام أجناس مختلفة من الطوباوية.
إذا كانت الاشتراكية لا تقدم شيئاً لصراع الطبقات الشعبية اليومي، فلا حاجة لنا بها!
إذا كانت الاشتراكية لا تستطيع أن تتحدث بلغة جديدة خلاقة، لغة الجماهير، فلا حاجة لنا بها!
على البرنامج الاشتراكي المنشود ألا يكون إصلاحياً، بل صريحاً في دعوته للقضاء على العلاقات الإنتاجية الرأسمالية الكولونيالية، وبالتالي فك الربط من المنظومة الامبريالية العالمية. لا يُمكن المساومة على هذا المبدأ إطلاقاً. لكن مشكلة أساسية تكشف عن نفسها هنا: كون الاشتراكية بحد ذاتها عملية طويلة الأمد تحتاج إلى وقت وصراعات فعلية لتحقيقها. فما العمل؟
كان الانتهازيون قديماً يؤمنون بتقسيم مطالب البرنامج الاشتراكي إلى مطالب إصلاحية صغرى ومطالب كبرى؛ وهذا تقليد علينا التخلي عنه تماماً. وعلى العكس من مبتدعي البرنامج الإنتقالي، وهو برأيي استراتيجيا تتضمن في البحث عن حالات مصغرة للسلطة- الثنائية والسبل نحو توسعتها لتكون حالة عامة (1)، أدعو إلى برنامج يكون كل مطلبٍ فيه هو المطلب المصغر والنهائي في مثل الوقت. كل شيء يعتمد على هذه الحقيقة، إذ أن المطلب الذي قد يبدو إصلاحياً بحدّ ذاته يكشف عن نفسه، في صيرورته، كعامل من العوامل التي تؤدي إلى تقويض النظام الرأسمالي ككل، ايّ أنه حالما ما يكتسب وعياً سياسياً – وهذه هي وظيفته بالتحديد – لا بد أن يؤدي إلى ضرورة السيطرة الطبقية للبروليتاريا والطبقات الشعبية (سياسياً، واقتصادياً، وآيديولوجياً).
معنى ذلك هو: إن كان البرنامج الاشتراكي يحتوي على مطلب “مصغر” وآني، فإن هذا المطلب ما إذا تعمق في الصراع الطبقي الجماهيري بوعيٍ حقيقي لا بد أن يؤدي، حتماً، إلى استنتاج نهائي يؤكد على ضرورة نهاية النظام الرأسمالي. إن المطلب الاقتصادي لا بد أن يكون في ذات الوقت مطلباً سياسياً، إن فصلنا الاثنين (وهذا ما يقوم به كل اليساريين في البحرين) سينتهي بنا الأمر بتعزيز الممارسة السياسية البورجوازية. إن لم يكن البرنامج الاشتراكي، اياً كان، مصمماً بطريقة يكون فيها الاقتصادي مرتبطاً بالسياسي، فإنه لا يعدو كونه برنامجاً إصلاحياً أو في أفضل الأحوال ما يسميه اليسار الشعبوي اليوم: الإصلاح الثوري، وهو ليس بثوري في حقيقة أمره.
لهذا السبب لم يعد من الممكن أبداً أن نتحدث عن إصلاح الرأسمالية، ولم يعد من الممكن أن نتحدث عن إصلاحات مصغرة هنا وهناك إلى أن يأتي اليوم المنشود، بل عن إصلاحات تمثل مواقع استراتيجية لتحويل العلاقات الإنتاجية الرأسمالية أو لقيادة هذا الانقطاع البنيوي.
لعلي أفكرُ هنا بما قاله كارلو كافيرو يوماً: “ليس ثمة وقت غير مناسب للتغيير”، (رغم أنني لا أشاطره منظوره الأناركي وراء هذه العبارة). لكنني لا أدعو إلى طراز جديد من الإرادية السياسية من حيث اقفز فوق الظروف الحقيقية والواقعية للصراع الطبقي. كما لا أدعو إلى إصلاحات كمية جزئية تفضي في نهاية المطاف إلى تحولٍ نوعي، إذ إن ذلك فيه شيئاً من الانتهازية والطوباوية، لا وبل المثالية.
إنما ما أدعو إليه هو – كما أسلفت – الخوض في صراعات تشكل مواقع تحويل استراتيجي لنمط الإنتاج الرأسمالي، وهذه الصراعات بحد ذاتها تساهم في تشكيل الظرف الموضوعي العام لهذا التحويل، ايّ أنها تفتح الظرف الموضوعي العام للجماهير (ايّ، موضوعياً وذاتياً) في مواجهة الرأسمالية.
إنه من غير الممكن أن نتحدث عن برنامج اشتراكي من دون أن نضعه ضمن إطار الحالة الملموسة الراهنة، وهي الحالة التي تفرض علينا تطويق رأس المال الاحتكاري من كل جانب، أيّ تلك المنظومة الاقتصادية التي تمثل التحالف ما بين رأس المال الاحتكاري الكولونيالي ورأس المال الاحتكاري الامبريالي. إن واجب كل اشتراكي أن يدعو لذلك. ولا نعني بالتطويق كشيء من المقارعة أو المشاكسة بقدر ما نشير إلى تشكيل الظروف الموضوعية للتحول الاشتراكي. إن أهمية البرنامج الاشتراكي تكمن في أن الجماهير تصبح أكثر وعياً لظروفها المحاطة بها، ايّ لا تجابهها بالوعي الأيديولوجي اليومي بل بوعي سياسي حقيقي.
كُل إصلاح في المجتمع الرأسمالي لهو إصلاح بورجوازي، ايّ يعمل في إطاره. هذه حقيقة لا خلاف عليها. ولكن أيعني ذلك، تحديداً، بأن علينا نرفض أن نعمل من أجل كُل إصلاح لأن كله غير اشتراكي بشكله الخالص؟ إطلاقاً (2). سأوكد لكم هذه الفكرة، وسأقولها بدايةً، أن فكرة وجود اشتراكية خالصة هي هي الإصلاحية بالتحديد وهي – بحد ذاتها – تحريفية، إذ إنها تدفعنا لنفرق، في البرنامج السياسي للاشتراكية، ما بين (وهذا شيءٌ طرحته الحركة العمالية الأوروبية حينما كانت تحت سطوة هكذا نزعة، ايّ الأممية الثانية) المطالب الصغيرة أو الآنية، ايّ – صراحةً- البورجوازية الإصلاحية، وما بين المطالب الكبرى أو تلك التي تتحقق على المدى البعيد وحسب، ايّ الاشتراكية الخالصة المؤملة. ولكَ أن تسألهم، من يومنا هذا إلى ذاك اليوم.. ما العمل؟ سيجيبونك: نعمل على الإصلاحات شيئاً فشيئاً إلى قدوم اليوم المنشود. وهكذا، إن كانت لك الحنكة الكافية، تفقد كُل أملٍ في هكذا ساسة زائفين.
الوجهُ الآخر لهكذا تحريف هو الاعتزال السياسي الكامل، وأنا متأكدٌ بأن القارئ مثلما يستطيع أن يرى يساراً كالطراز الأول في البحرين أنه – بلا شك – يرى يساراً كالطراز الآخر هذا، فيحسبون بأنه لما كان كل إصلاح هو إصلاح بورجوازي، فما جدوى العمل عبره؟ أو اسوأ: ثمة طراز يخلط النزعتين فتجده يعتزل السياسة لأنه في بلد ليس ديموقراطياً بالمعنى الكامل؛ كما لو كنا، نحن الاشتراكيين، نأبه بالديموقراطية البورجوازية! كما لو لم تكن ديموقراطيتنا هي ديموقراطية مجالسية!
القارئ سيتفق حتماً بوجود هذه النزعات في البحرين: من اليساريين الذين اعتزلوا اليسار كلياً، إلى الداعين بتبريد الماركسية في المبرد (رسمياً “التعويم الآيديولوجي”)، إلى اليسار البرلماني الذي لا يمت بصلة لتعاليم المذهب الاشتراكي العلمي (الاشتراكيون في الأقوال، اصلاحيون في الأفعال). لن يستطيع أي أحد أن ينكر هذه الحقائق ابداً.
إن تاريخ اليسار البحريني مليء بالإنجازات التي ينبغي على كل اشتراكي دراستها، وفهمها بالكامل، وإعادة تأريخها علمياً. لكن لتحقيق أي شيء يُذكر في الاشتراكية سيكون علينا أن ندعو إلى الانقطاع التام عن كل شكل يساري تقليدي الذي وجد في البحرين إلى يومنا هذا. بهذه الطريقة، ووحدها هذه الطريقة، سنظل أوفياء لهذا التاريخ. أقولُ الانقطاع عن الشكل أو التقليد لا الشخوص، إذ ندعو مثل اليسار ليفهم ما نورده في هذا النص، وبلا شك نسعى أن نضع يدنا بيده في حدود أنه يقبل بشكل عام ما نقوله. ولكن ليس من الممكن إطلاقاً أن يكون هناك يساراً حقيقياً وخلاقاً من دون أن يقوم على أسس نظرية علمية صلبة وممارسة سياسية بروليتارية.
إذن، اليسار البحريني بحاجة إلى ثورة ثقافية!
بلا شك، قد يتردد أمام هذه المهمة التاريخية، أمام الدعوة ليكون قرننا قرناً اشتراكياً، لكن سيكون عليه أن يتذكر كلمات دانتي: “لا تخف وأصعد عالياً، فإنك شجاع!”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1): هذا بالضبط ما آمن به إرنست مَندل حين قال حول الثورة البرتغالية في (الاستراتيجيا الثورية في أوروبا): ((نحن أمام بدايات السلطة-الثنائية، بدلاً من حالة عمومية لهذه السلطة-الثنائية… في هذا الوضع، إن الواجب الثوري للماركسيين هو تعميق، وتعميم، ومركزة هذه الهيئات القاعدية. لكن حين تطرأ تلك السوفيتات من دون أن تكون موجودة في كل مكان، فإننا نكون في حالة انتقالية ولا يُمكن أن نقول عنها بإنها تمثل “أزمة ثورية”)). من الواضح بأن هذه الفكرة خاطئة في حدود أنها تصور الدولة البورجوازية كما لو كانت تخلو من أية تناقضات داخلية، وكما لو كانت البورجوازية – وهذا تشخيص ماو للتقليد التروتسكي عموماً- تخلو من تناقضات داخلية. إنه- مَندل – ينسى أهم ما كتبه لينين بهذا الشأن وهو – في معناه – : الثورة لا تنشب إلا حين يتصادف عاملان، عدم رضا الجماهير بالوضع الراهن وعدم قدرة البورجوازية على الاستمرار في حكمها الطبقي (ايّ، حين تحتد تناقضاتها). هذه النظرة التي يمثلها مندل تنظر إلى جانب واحد من القضية، من حيث إنها تنظر إلى الثورة كما لو كانت تنشب فقط حين تكون الجماهير غير راضية عن الوضع الراهن؛ وهذا – بلا شك – موقع يسراوي في الفكر الاشتراكي.
(2): يقول لينين في (الماركسية والإصلاحية): ((على العكس من الأناركيين، يدرك الماركسيون ضرورة النضال من أجل الإصلاحات، أيّ تلك الإجراءات التي من شأنها تحسن من أوضاع الشعب العامل دون تقويض سلطة الطبقة المسيطرة. لكن في مثل الوقت، يشن الماركسيون أشرس هجوم ضد الإصلاحيين الذين، بشكل مباشر أو غير مباشر، يحصرون أهداف ونشاطات الطبقة العاملة في تلك الإصلاحات. الإصلاحية هي خديعة بورجوازية موجهة للعمال، إذ إنها تجعلهم – العمال – عبيداً لرأس المال اللهم بأوضاع أفضل— وهذا سيدوم بديمومة سيطرة رأس المال.))