ها نحن قد وصلنا ربيعاً، بعد أن ارتوت الأرض من ماء السماء فصلاً كاملاً، لتنبت الأشجار والورود مرة أخرى، وتكتسي الأرض خضرة، معلنة عن اعتدال الطقس. ها هي الأعين ترتوي أملاً، والحواس تستريح بجمال الطبيعة وبتجدد مظاهر الحياة، وها هو الأمل ينبعث مجدداً، ليعلن عن بدايات جديدة.
لا أعرف إن كان هذا الربيع بالذات يبشرنا حتماً ببدايات جديدة، ولكن لنكن متفائلين ولنحصر آمالنا في الكلمات، بعد أن أصبحت هذه السنة، سنة الكتابة، بلا منازع، للكثيرين، بعدما اجتاحت العزلة حياتنا، وأعطت الفرصة للذين لم نتوقع قط أن يبوحوا لنا بالقلم بما تخفيه أفكارهم من خيال.
لنا أن نضرب المثل بجمال الشريقي، شاب أمازيغي جزائري الجنسية ويبلغ من العمر خمسة وثلاثين عاماً، لم يسبق له أن كتب مقالاً أو نشر رواية، و لم يحالفه الحظ أن يكمل تعليمه، لا بل وأنه قضى جزء كبير من السنين العشر الأولى من شبابه وهو في حيرة من أمره، لا يعرف ما يريد وما عليه أن يفعل، حتى ساعده أهله قبل عدة سنين في شراء بقالة تقع في أحد المدن غير المعروفة في الشمال الفرنسي، فبدأت سنوات الملل والعزلة لجمال، وسط الزبائن الذين يدخلون صامتين لشراء حوائجهم ويخرجون مع قليل من الكلام، هي سنوات لم يكن معتاداً عليها، ذلك الشاب الثرثار، الذي لم يعرف التخلص من الفراغ دون الانكباب على القراءة والكتابة.
ليس كل الروائيين مُدرسين أو صحفيين. بعضهم روائيون بالإرادة والبعض الآخر أطباء، مهندسون، أصحاب أعمال أو حتى عاطلون عن العمل. ما يعدّ غير الدارج، هو أن يكون الكاتب بائع مواد غذائية، وأن يكتب أولى رواياته خلف منضدة العداد، بحضور الزبائن الذين يشغلونه باستمرار عن الكتابة. خارج ساعات الذروة، قضى جمال معظم وقته وهو يقرأ بنهم أنجح الروايات التي عرفها الأدب الفرنسي من القرن التاسع عشر حتى قرننا هذا، ليعرف كيف يمهد لحصاده الأول، أو ما أطلق عليه “شبه سيرة خيالية”، قصة الشاب الذي يكتشف نفسه ويبدأ في إيجاد ذاته قبل اكتشاف العالم.
تحكي الرواية التي عنونها جمال ب: “الراتب المقدس”، كل الأفكار الشيطانية المرئية أو المحسوسة التي تعبر محيطه وهو واقف خلف المنضدة، فيتمنى لو أن حاضره كان أفضل مما هو عليه. “لماذا لا أسرد قصة حياتي بصورة أكثر إثارة؟” كان يقول لنفسه ربما هي الإثارة التي كانت ستعطي لحياته منحى آخر وتجعل منه شخصاً آخر.
على كل حال تبدأ الرواية بحكاية تشبه حكايته، وهي قصة طالب يتم طرده من قبل أبيه، بعدما صارحه برغبته في ترك الجامعة من أجل تكريس كامل وقته للكتابة، فما كان منه إلا أن يصرخ على ابنه طالباً منه الخروج من المنزل، ليرى الراوي نفسه والجاً بقالة آلان باسيل، الذي لا يتردد في تعيينه. لم يكن آلان باسيل هاوياً للكتابة، كان بائع مواد غذائية مع طموح واحد مصاحب له: أن يصبح مليونيراً. كان مستعداً لأي شيء ويحتاج إلى شريك، فقام بتجنيد بطل الحكاية من أجل المشاركة في تجارة المخدرات، لتقلب حياته رأسا على عقب، و يدخل في سلسلة مغامرات ثنائية حاسمة، مليئة بروح الدعابة، ساعدته في كتابة ما كتب اليوم، وما وضع للرواية نهاية.
الرواية تجسد الفرق ما بين الأفكار والأفعال. على سبيل المثال، قد تدفع الرغبة في الحصول على المال إلى التفكير بالسرقة أو الغضب إلى الرغبة في الضرب، ولكننا لا نحوّل، لحسن الحظ، كل الأفكار إلى أفعال. كان بإمكان جمال البائع أن يتواطىء مع شبكة مافيا لجني المزيد من المال ولكنه لم يفعل، واختار بدل ذلك أن يوظف خياله لخدمة الأدب وحثّ الشباب في سنه على الكتابة.
بعدما أنجز الرواية، راح جمال الشريقوي يرسل المجلد إلى عدة دور نشر، غير آملا كثيراً في أن يرد عليه أحد. كان يهمس لنفسه: “من سيرغب في نشر رواية بائع مواد غذائية ؟ لا أحد !” شاء الحظ أن يبتسم له ببداية جديدة، بعدما اتصل فيه ناشر، طالبا التحدث مباشرة مع تاجر المخدرات آلان باسيل، لينفجر جمال ضاحكا: “هل هذه سخرية ؟”. ما كان سخرية، أصبح واقعاً، حيث تمكن الشاب المبتدأ من نشر روايته الأولى الشهر الماضي، معطياً المساحة للكثير من الاعلاميين لزيارته في بقالته، من أجل سرد قصة البائع الذي أصبح كاتباً.