مع تنامي وتيرة التغيرات المستمرة والدراماتيكية التي يشهدها العالم، خصوصًا بعد جائحة كورونا (كوفيد ـ19)، أصبح تحديد المهارات المطلوبة للمتعلم أمرًا أساسًا، بُغية الوصول إلى فردٍ قادرٍ على التعامل مع متطلبات المراحل اللاحقة لتخرجه من المدرسة؛ سواءً كانت متعلقة بمتابعة تعليمه العالي أم الانخراط في سوق العمل.
ولقد ركزّ الإطار الرابع لمراجعة أداء المدارس الحكومية والخاصة الصادر في فبراير 2019 عن هيئة جودة التعليم والتدريب في مملكة البحرين على تطوير المخرجات التعليمية من خلال الاستناد إلى مهارات القرن الواحد والعشرين والتي تعدُّ منطلقًا لمجالات الإطار ومعاييره، بحيث تفرز العملية التعليمية أفرادًا متمكنين من المهارات الأكاديمية والحياتية الداعمة، وقادرين على التأقلم والمنافسة ومواجهة التحديات. هذا، وتهدف هذه المهارات إلى توحيد الرؤية واللغة فيما يرتبط بالمتوقع من الطلبة عند استكمالهم المراحل التعليمية المختلفة، كما تلعب دورًا مهمًا في تقليص الفجوة بين مخرجات التعليم، ومتطلبات سوق العمل.
لا بأس من الإشارة ـ ولو بشكل سريع ـ إلى المقصود بمهارات القرن الحادي والعشرين والتي يتمحور حولها إطار مراجعة أداء المدارس الحكومية والخاصة بمملكة البحرين، وهي على النحو الآتي:
1ـ مهارة التفكير الناقد.
2ـ مهارة التواصل والعمل الجماعي.
3ـ مهارة الإبداع وحلّ المشكلات.
4ـ مهارة القيادة وصنع القرار.
5ـ مهارة المواطنة المحلية والعالمية.
6ـ مهارة الريادة والمبادرة.
7ـ مهارة التمكن اللغوي.
8ـ مهارة الثقافة التكنولوجية: أي قدرة الطلبة على استخدام التكنولوجيا وأدواتها بفاعلية؛ لصناعة المعلومات أو الوصول إليها، وإدارتها، وتفنيدها ونقدها، ونشرها، مع الدراية التامة بأثر المحتويات التكنولوجية على الفرد والمجتمع.
مثالٌ على ذلك: عندما يوظف الطلبةُ وسائل التواصل الاجتماعي في العملية التربوية والتعليمية.
بطبيعة الحال، ليس الهدف من استخدام التكنولوجيا في التعليم زيادة تحصيل الطلبة للمعلومات، وإنما زيادة قدرتهم وتمكنهم من استخدام المعلومات بأقل جهد وفي أقل وقت وأكثر متعة، فمسألة رقمنة التعليم في المدارس والجامعات تتطلب حتمية تمكين المعلم والمتعلم في بيئة تعلم ذكية.
“كورونا” والتعليم عن بعد
فمع بداية جائحة كورونا (كوفيد ـ19)، أصبحت الثقافة التكنولوجية ضرورة حتمية لا يمكن تجاهلها بالنسبة للمعلمين والمتعلمين وأولياء الأمور على حد سواء، كما أصبح التعلم عن بُعد هو الخيار الأسلم والأمثل نتيجة الظروف الصحية الراهنة، فلا توجد صفوف دراسية وإنما وسائل وتطبيقات التواصل الاجتماعي، كما حلّ البيت مكان المدرسة، وأصبح أولياء الأمور بشكل أو بآخر شركاء إلى حد كبير مع المعلمين في العملية التعليمية التعلمية، مع تحفظنا على (بعض) الممارسات التي جعلت منهم متعلمين ويحلون الواجبات والتطبيقات بدلًا من أبنائهم، مما يستدعي التدخل بوضع أنظمة تقييم وتقويم صارمة تقيس بدقة أداء الطالب نفسه وليس ولي أمره أو أي شخص آخر ينتحل شخصية المتعلم.
(البعض) ولا ونقول الكل، تطرف وذهب بعيدًا جدًا إلى حد المطالبة بإلغاء التعليم الحضوري إلى المدرسة حتى في مرحلة ما بعد كورونا، بحجة أن التعلم عن بُعد يفي بالغرض.
أصحاب هذه الدعاوى (الذين يطالبون بإلغاء التعليم الحضوري وحصره في التعلم عن بُعد) يقولون بأنه تم سقوط تابوهات التعليم: ويعنون بذلك الثالوث (المدرسة والمعلم والامتحانات) لصالح التعلم عن بُعد!
إلا إننا نؤكد على أهمية التعليم المدرسي الانتظامي (عن قُرب)، خصوصًا مع طلبة التعليم الأساسي (المرحلة الابتدائية)؛ لأن مهمة التعليم ليست فقط إدخال الطلبة في عالم المعلومات والمعرفة وتدريبهم على بعض المهارات المطلوبة في سوق العمل ـ كما يقول المفكر د.علي فخرو ـ وإنما المطلوب أكثر من ذلك بكثير، فالمدرسة يجب أن تكون أداةَ تغييرٍ وتجديدٍ ثقافيٍ وشحذِ وبناءِ التزاماتٍ وطنية وقومية وإنسانية. وهذا لا يمكن أن يتم إلا من خلال عمليتي تفاعل إبداعي بين الطالب وزملائه، وبين الطالب ومعلمه، فالمعلم لا يستطيع أن يقوم بتلك المهمات من خلال التواصل الإلكتروني، وإنما في الأساس من خلال التفاعل الخلاق في الصف مع تلاميذه.
دعونا نتناول المشكلات التي تواجه التعلم عن بُعد بمقاربة حقوقية منصفة، ولنبدأ أولًا بالمعلم.
*فالمعلم فترة التعليم عن قُرب (قبل الجائحة) كان يعمل في اليوم الدراسي الاعتيادي من الساعة 7 صباحًا ولغاية الساعة 2 والربع ظهرًا، بينما الآن أصبح الحلقة الأضعف إذ أن وقته مفتوح وهو ملاحق من الإدارة المدرسية والطلبة وأولياء الأمور خارج أوقات العمل، وهذا الأمر كما لا يخفى عليكم انتهاك صارخ لحق المعلم في الخصوصية والاستمتاع بوقت الراحة والإجازات شأنه شأن أي موظف يعمل في القطاع العام أو الخاص.
وأنا هنا أطرح سؤالًا على بعض الإدارات المدرسية التي تسمح لنفسها الاتصال بالمعلمين بعد انتهاء الدوام الرسمي وتكليفهم بمهام، يا ترى ما المهام التي تحمل صفة الاستعجال ولا يمكن أن يقوم بها المعلم الموظف في أوقات العمل الرسمي الثمان ساعات؟!
استعدادات المدارس
كثير من المدارس تشتكي من ضعف شبكة الإنترنت وبطء الأجهزة في غالبية المدارس، فالدرس أحيانًا يتعطل بسبب خلل تقني، كما يقوم عدد ليس بالقليل من أولياء الأمور أوقات البث بتلقين أبنائهم وبناتهم الإجابات والمعلمون يسمعونهم، والإدارات المدرسية على علم بهذه التجاوزات، وهناك بعض المعلمين والمعلمات في مجموعات الواتساب مع أولياء الأمور يقرؤون المناقشات من ولي أمر مثلًا يقول أنا حليت الواجب!
ثمة مسائل تغيب ربما عن البال، وهي أن أوقات حل التطبيقات محددة بوقت الدوام الرسمي من الساعة ٨-٢، وبالتالي يتعارض مع أوقات الأمهات العاملات وأولادهم في البيوت! فكيف يتابعونهم وهم أطفال؟
كما أن ظروف السكن لبعض العائلات تمثل تحديًا هو الآخر، حيث تسكن الأسرة الواحدة في غرفة واحدة أو شقة مكونة من غرفتين، ولديهم أربعة أولاد مثلًا، فكيف يتم توفير أماكن هادئة وملائمة للدخول إلى البث؟!
لا زلنا نستبشر خيرًا بحملة فينا خير، في مبادرة توزيع الأجهزة المحمولة اللابتوبات على طلبة الأسر من ذوي الدخل المحدود، مع الأخذ بعين الاعتبار ظروف الأسر التي بها أكثر من 3 إلى 5 أطفال من مراحل دراسية مختلفة، وصعوبة توفير جهاز محمول لكل واحد منهم، هذا فضلًا عن حدوث بعض المواقف الطريفة العديدة التي تصادف بعض المعلمين، فأحيانًا الطالب موجود وحاضر فعليًا في الصف مع المعلم، وفي الوقت نفسه هو موجود في التيمز ويجاوب! (الأم حاضرة في التيمز).
خلاصة وتعقيب
ـ التعلّم الحقيقي حق من حقوق الإنسان، وذلك لن يتحقق من غير العدالة والمساواة وإتاحة فرص التعلّم الذكي للجميع بلا استثناء.
ـ التعليم التقليدي القائم على الحفظ والتكرار وحشو المعلومات هو الوجه الآخر لتعليم فاسد وثقافة الشهادات الورقية بلا مهارات.
ـ بناء العقلية الناقدة للمتعلم هو أساس أي تغيير في التعليم.
ـ المشكلة ليست في محاولة تطوير التعليم، وإنما في قدرتنا على تفكيك منظومة التعليم الموروثة.
ـ أهم تحديات تطوير التعليم هو استبدال ثقافة التمدرس النمطي بثقافة التعلم الحقيقي.
ـ التعلّم الحقيقي شخصي جدًا (أي غير قابل للتعميم)؛ لأنه يتوقف على شخصية المتعلم ودافعيته للتعلم، بشرط وجود بيئة تعلم مناسبة.
ـ في نظم التعليم الجيدة يتم تقييم المدخلات والعمليات دومًا، وهو أهم بكثير من تقييم المخرجات مقارنة بنظم التعليم التقليدية.
ـ المعلم داخل الصف الدراسي (عن قُرب) لا ينقل المعلومات فقط، بل ينقل خبراته وموقفه من المعرفة والحياة والمجتمع.
ـ التعليم الحقيقي يشبع فضول الطفل ويسهم في تنمية الشك الإيجابي لديه.
ـ تقييم إنجازات الطلبة طوال العام الدراسي أفضل بكثير من اختبارات نهاية العام والتطبيقات التي يتولى أولياء الأمور حلها، فهل نستطيع التغيير؟!
ـ مجتمعاتنا للأسف الشديد اختزلت التعليم في اختبار نهاية العام الدراسي!
ـ إدارة ملف التعليم لها أبعاد سياسية واجتماعية واقتصادية، قبل أن تكون تربوية.
ـ مجتمعاتنا تغضب عندما ندعو لإصلاح التعليم، ولا تغضب لتفشي ظاهرة الدروس الخصوصية والمذكرات الدراسية التي تعلب عقول الطلبة وكذا استحداث آليات للغش الجماعي وتسريب أسئلة الامتحانات.
ـ القضية ليست تطوير المناهج، ولكن القضاء على ثقافة الحفظ والقهر وشهادات الزور الورقية!
ـ تطوير التعليم يجب أن يكون بدافع أننا أمة في خطر.
ـ لا يتحقق التعلم الحقيقي بدون أن يتوفر لديك ثلاث ركائز أساسية: رغبة حقيقية وحاجة للتعلم وبهجة المعرفة.
ـ ثقافة التعلم الحقيقي تقوم على أساس أن الهدف من الاختبارات هو تحديد ما الذي يجب أن يتعلمه الطالب، وليس ما الذي تعلمه في نهاية العام الدراسي..!
وأخيرًا .. التعلم عن بُعد لا يمكنه أن يكون بديلًا أبديًا للتعليم المعتاد.
*ملخص ورقة قدّمت في “ملتقى التقدمي” الأسبوعي بتاريخ 24 يناير 2021