تجربة حياة، تجربة نار ورماد.
عندما فتحت عيني على العالم، وجدت الحرف، يأسرني، يلاحقني، يغويني بفتنته المستبدة. كنتً صبيًا خجولًا، حينما كنت أراقب أخي الكبير، اليساري النقي المتحمس يعود من العمل ويقرأ ويقرأ بدون توقف طوال الليل. لا أدري هل هو من زرع بداخلي الحرف دون أن يشعر، أم أن أحدًا ما لا أتذكّره أو أعرفه. بعد سنوات من القراءة والكتابة بحثت عمن علمني عشق الثقافة كي أقتله فقد أحال حياتي الى جحيم فلم أجده. مرة حينما كنت في الرابعة عشر من عمري، كنتُ جالساً حتى ساعة متأخرة من الليل، فجاءني والدي وسألني ماذا تفعل في هذا الوقت. قلت له: أكتب. ماذا تكتب؟ قلت له: أكتب شعرًا. فهزّ رأسه وهو يقول: لا يا بني، درب الشعر صعب ومؤلم وعذاب. حينها ظننت أن والدي العجوز لا يعرف شيئًا فتجاهلت كلامه. وبعد سنوات اكتشفت أن ما قاله هو عين الصواب، فكتبت:
دَربُ الشعرِ عذابٌ، حَسَكٌ ..
وآخره اكتئابٌ
قَالَهَا أبي حِينَما كُنتُ صَغيراً
أنتَ اخترت أن تَحْترق
قُلتُ ما أشهَى الرَمَاد
كان يومًا سعيدًا أو مشؤوما، لا أدري، حين جاء الحرف يدقُ بابي، كان ذلك عندما كنت في سن الثامنة أو التاسعة عندما أنهيت كل كتب الأطفال في مكتبة المدرسة في عام دراسي واحد وكان عددها حوالي 100 كتابًا تقريبًا. كنت حينها في الصف الثالث ابتدائي، لا أدري من حرّضني أو أغواني، صدقوني لا أعرف. عندما بلغت الصف السادس ابتدائي أصدرت مجلة أسميتها “الثورة” كانت عبارة عن ست أو ثمان صفحات، تحتوي على رسومات وقصائد وحكايات حيث كنت حينها أهوى الخط والرسم والكتابة. حسب ما أذكر أصدرتُ عددين ثم حذرني استاذي اللبناني من خطورة ما أكتب وأعرب عن قلقه على مستقبلي، فتوقفت. كان ذلك في فترة الإستعمار الإنجليزي.
أذكر في نفس السنة، أي الصف السادس ابتدائي، سأل نفس المدرس التلاميذ عما يريدون أن يكونوا عندما يكبرون. كثير من الطلبة تراوحت أجوبتهم ما بين “طبيب” أو “مهندس” وغير ذلك وعندما جاء دوري قلت بفخر “أريد أن أكون صحفيًا” فضحك التلاميذ ولكنني لم أبه بضحكهم. والحمد لله أنني لم أصبح صحفياً فهي مهنة المتاعب والبهدلة. هذه كانت ربما مرحلتي المبكرة للالتقاء بالحرف.
بدأت المرحلة الثانية، عندما صدرت صحيفة الأضواء عام 1965 بدأنا أنا وصديق عمري علي الشرقاوي – الله يمنّ عليه بالصحة والعافية- في ذلك الزمان نتردد على مكتب الصحيفة على أمل أن ينشروا لنا، وفي كل مرة كنا نكتب شيئًا: شعر، قصة، مقال، مسرح. في إحدى المرات قال لنا مدير الصحيفة الكاتب والقاص المعروف محمد الماجد – طيب الله ثراه- ماذا تريدان أنتما، في كل يوم تكتبون شيئًا، يجب عليكما التركيز والتخصص ونصحنا بكتابة الشعر لأنه رأى في ذلك الوقت أننا أقرب إليه. وكان ذلك. كانوا ينشرون لنا في باب مع القراء، حتى جاء يوم توجّهت فيه الى مكتب الصحيفة ودخل المرحوم محمود المردي رئيس التحرير وأخذ بيدي وأدخلني مكتبه. وسألني: ماذا لديك هذه المرة؟ ورأيته يقرأ القصيدة التي كتبتها وهو يهز رأسه علامة الإستحسان، وقال لي: نعم …نعم. وسألته هل سوف تنشرها لي؟ فقال: طبعا وفي برواز خاص مع صورتك. كان يوما شعرت فيه أنني ولدتُ من جديد، وكدت أرقص فرحًا.
في عام 1968 تعرفت على الشاعرين قاسم حداد وعلي عبدالله خليفة وكانا قد قطعا شوطًا في كتابة الشعر ومن الشعراء الشباب البارزين. استفدت كثيرًا من تجربتهما ومن توجيهاتهما حتى بزغت اسرة الأدباء والكتّاب الى الوجود في عام 1969، كنا مترددين أنا وشلتي الأثيرة (الشاعرين على الشرقاوي ويعقوب المحرقي) في الإنضمام لأننا كنا نخشى أن تجاربنا لم تنضج بعد، ولكنهم شجعونا وبقوة على الإنضمام بعد التأسيس مباشرة.
مع انضمامنا الى أسرة الأدباء بدأنا في سباق مع الشرقاوي والمحرقي في مسيرة التطور الإبداعي وفي كتابة الشعر الحديث، سباق ودي حميم. كانت فترة ساعدتني كثيرًا في تطوير أدواتي وتجربتي. كانت فترة كنت تائهًا فيها بين الشعر التقريري المباشر بسبب انتمائي الأيدلوجي وبين الشعر الحداثي الذي يرتكز على الرؤى والصور الفانتازية والدهشة والتفكيك. لذلك صدر ديواني الأول “عاشق في زمن العطش” عام 1975 خليطًا بين الإسلوبين. هذا الديوان اشتمل على قصيدة “رسالة مسجونة” التي اشتهرت باسم “حبيبتي” التي قدمتها فرقة أجراس من ألحان الموسيقار الكبير المرحوم مجيد مرهون وغناء الفنان المرحوم فوزي الشاعر.
بعد ذلك مرت عليّ فترة فتور، فقدان حماس للكتابة، عدم الإقتناع بما أكتبه، وساءت الحالة بشكل أكبر مع سقوط الإتحاد السوفيتي، ذاك التفكك المدوي الذي صدم الكثير من المثقفين ومن هواهم كان يساريًا ففقدت الرغبة كليًا تقريبًا في الكتابة والإيمان بالكتابة فأغرقت نفسي في العمل، العمل المصرفي الذي امتص كل طاقاتي لكنني لم ابتعد عن القراءة يومًا وأنا الذي هجر القلم أو هجرني. مرت سنوات طويلة قاربت العشرين عامًا وأنا على هذه الحالة فانسدت شرايين التعبير والإبداع بداخلي، مما تسبب في مروري بحالة اكتئاب طالت لفترة ليست قصيرة. شعرت أنني أختنق فعلًا. داخلي أنهارٌ وبراكين وانفجارات ومدن تحترق وأحلامٌ فقدت وجهها وملامحها.
فجأةً ودون ميعاد انفجرت الينابيع المسدودة وانتثرت الحروف على الورق وأصبت برد فعل جعلني أكتب دون توقف. لم تكن كتاباتي بالجودة التي انتظرتها أو المستوى الذي أطمح إليه في البداية بعد ذاك التوقف الطويل. كان القلم يصبّ حبره ببطء. لكن مع الإصرار ومواجهة التحدي الكبير بدأت أتطوّر بسرعة وأصدرت في عام 2003 ديواني الثاني “صخب الهمس” والذي ترجمته الى اللغة الإنجليزية في نفس الكتاب. كانت هذه المرحلة الثالثة من تجربتي. مرحلة العودة للكتابة ولكن هذه المرة دون تراجع. في عام 2007 أصدرت انطلوجيا الشعر البحريني (اللؤلؤ وأحلام المحار). وهذه الانطلوجيا هي عبارة عن ترجمة لقصائد مختارة ل 29 شاعرا وشاعرة بحرينية الى اللغة الإنجليزية وطُبعت ونُشرت في الولايات المتحدة بتمويل من مركز الشيخ ابراهيم ودعم من الشيخة مي آل خليفة رئيسة هيئة الثقافة والآثار.
في عام 2010 أصدرت ديواني الثالث “غربة البنفسج” وأيضا باللغتين العربية والإنجليزية. وهذا الديوان يشتمل على قصيدة “قمر البلاد” الأغنية التي قدمتها فرقة أجراس، تلحين وغناء الفنان الكبير المرحوم سلمان زيمان، وكتبت يوم وفاة المناضل الكبير احمد الذوادي. استمر هذا الدفق القوي معي حيث أصدرت ديواني الرابع “ما عاد شيء يهم” عام 2015.
أنا أكتب الشعر منذ زمنٍ طويل، بدأت بشعر التفعيلة في ديواني الأول “عاشق في زمن العطش”. ثم جرفتني الأمواج العاتية نحو تخوم بعيدة في الروح وفي القلب والجسد. مررت بتجارب حياتية كثيرة وأحيانًا مريرة صقلتني، وكانت لشهوتي المُغامرة دورها في دخولي عالم التجريب والغرائبية للبحث عن حرف مختلف ومعنى مختلف أمام هذا الزمن السريالي في تشكيلاته، والعبثي أحيانًا في احداثياته، والحوادث اللامعقولة التي دخلتُ فيها وكانت النتيجة حرف مجنون، يبحث عن نفسه، والإستعانة بالموروث بنظرة جديدة وفهم جديد متقدم. أصبح الشعرُ بالنسبة لي مثل تأريخ لحظاتي بأحزانها وهزائمها وافراحها وانتصاراتها وبكل تلاوينها المختلفة شعرًا. وأصبحت قصائدي بمجملها تجسد لحظاتي اليومية بكل جرأة وشفافية ودون مواربة. يمكن لأولئك الذين يتابعون صفحتي على الفيس بوك ان يشهدوا على ذلك فقد أصبح هذا البرنامج عبارة عن سبورة أنثر عليها حروفي يوميًا.
كانت المرحلة الرابعة من تجربتي الإبداعية مغايرة حين توجهت الى السرد كنافذة اضافية للتعبير وليس بديلًا عن الشعر حيث أصدرت روايتي الأولى “وللعشق رماد” عام 2016. كانت كتابة رواية حلمًا من أحلامي وتحققت اعقبتها بالرواية الثانية “طريق العنكبوت” عام 2019. في عام 2020 وفي ذروة انتشار فيروس الكورونا حاولت تاريخ الحدث برواية اسمها (كان الوقت مساءً “حكاية حب في زمن الكورونا”). ربما على خطى الكاتب الكولمبي الكبير غابرائيل جارسيا ماركيز صاحب رواية “الحب في زمن الكوليرا” لكن روايتي مختلفة تمامًا مجرد تشابه جزئي في العنوان. هذه الرواية تنتظر النشر، وهي تتحدث عن حكاية حب في زمن الكورونا بطلتها طبيبة تونسية، والبطل رجل مهووس بالزمن ويتخيل أنه يسمع صوت الزمن، ويذهب الى الربع الخالي ويتخيل أنه يسمع صوت الماضي البعيد، قوم عاد وثمود وهم ما زالوا خالدين تحت أكوام رمال الربع الخالي. حكاية حب في قمة الفانتازية والغرائبية في زمن هذا الوحش المقيت: الكورونا.
في الوقت الحاضر أكتب روايتين في نفس الوقت تقريبًا ربما لشعوري أن ما تبقى من الوقت قليل.
لدي بعض المخطوطات التي تنتظر النشر منها ديوان “دهشة الرذاذ” وهو مجموعة من شعر الومضة قدمته الى هيئة الثقافة والآثار للطباعة وبانتظار فرج الميزانية. ولدي أيضا ديوان جاهز للطباعة اسمه “سر ما رأى” بالاضافة الى كتاب “ضوء للعتمة” ويتالف من مجموعة من مقالاتي ومجموعة قصصية اسمها ” على صدرها التصق كتاب” وكلها تنتظر النشر أو تبحث عن ناشر.
انها رحلة الحرف التي لا تنتهي.. رحلة تشبه الصلاة، جزءًا من تقاويمي ولحظاتي .. الكتابة التي أصبحت بمثابة التنفس الذي دونه لا أحيا!