لم يعد من شك في أن مصادر تهديد كيان الدولة الوطنية ليست خارجية، فقط، وليست تنحصر في مخاطر الغزو الخارجي أو في تصدير الطائفية والمذهبية، أو في تصدير الجماعات «الجهادية» المسلحة المستقدمة من كل حدب وصوب، فقط، وإنما هي في الوقت عينه مصادر داخلية، تأتي الدولة من الداخل الاجتماعي: من بُناه وعلاقات قواه، والنزاعات الأهلية فيه.
وليست المعارضات السياسية المدنية الحديثة: المنظمة في أطر اجتماعية قانونية مشارِكة في السلطة أو غير مشاركة في جملة مصادر الداخل المهدِّدة، إلا حين تجنح للعنف أو تركب لتحقيق أهدافها مركباً «دينياً» أو طائفياً أو مذهبياً أو قبلياً أو عرقياً، وما شابهه. حينها فقط، تتحول إلى خطر يهدد بنقض كيان الدولة، على مثال ما شهدنا عليه في حالات عربية عدة بمناسبة عاصفة أحداث ما عُرف باسم «الربيع العربي».
بأي معنى يمكن للداخل الاجتماعي العربي أن يتحول إلى مصدر تهديد لكيان الدولة الوطنية ووحدته واستقراره؟
يحصل ذلك غالباً في حالة المجتمعات العربية التي تعاني نقصاً حاداً في علاقات الاندماج الاجتماعي، وهي الكثرة الكاثرة في تلك المجتمعات؛ أي في تلك الفئة من المجتمعات التي يجوز تسميتها ب«العصبوية» أو القابلة للصيرورة عصبوية عند أي أزمة اجتماعية أو سياسية يتعرض لها كيانها. لقد قضى تكوين الدولة «الحديثة» في البلاد العربية بأن تقوم هذه على قاع اجتماعي هش من تكوينات أهلية تقليدية تميزت في الغالب منها بانكفائها في عصبياتها الموروثة، وضعف صلاتها في ما بينها باستثناء تلك التي تنشأ بينها في نطاق الدولة والسلطة المركزية ومؤسساتها. والأنكى من هذه القاعدة الاجتماعية «العصبوية» الفسيفسائية أن هذه العصبيات لم تكن تسلّم، بسهولة، بقيام سلطة مركزية تصادر منها سلطتها الأهلية الموروثة عن الاجتماع التقليدي؛ بل كثيراً ما مانعت ضد سياسات المركزية، محاولة الحفاظ للعشائر والقبائل والطوائف والمذاهب والمناطق على بعض ما كان لها من سلطان على نواحيها.
ولقد وقع تركيب نظام سياسي، في هذه الدولة، على هذا التكوين العصبوي الفسيفسائي، فأتى النظام هذا يطل بصيغتين ووجهين: إما في شكل نظام قائم على الاحتصاص (المحاصصة) الطائفي، على مثال ما في لبنان وعراق ما بعد الاحتلال في صورة من ذلك التقاسم واضحة و«دستورية» أو عرفية وعلى مثال حالات عربية أخرى يؤخذ في حساب توزيع السلطة فيها التمثيل الأهلي العصبوي، وإما في شكل نظام غير «احتصاصي» في توزيع التمثيل فيه، لكنه خاضع لابتزاز عصبيات المجتمع الأهلية، ومدعو إلى أخذ مصالحها في الحسبان لئلا يصطدم بها، أو يدفعها إلى الاستنفار ضده. وفي الحالين، بدا النظام السياسي الذي من هذا الجنس، ضعيف الكيان أمام عصبياته الأهلية، وشديد التأثر بأي أزمة اجتماعية وأي اختلال في توازنات قوى المجتمع العصبوي.
لسنا بحاجة إلى أن نفيض في بيان ما كان للهندسة السياسية الاستعمارية من دور حازم في تكوين مثل هذا النظام السياسي القائم على قاع عصبوي، سواء جرت الهندسة تلك في إطار عملية التجزئة السيكسبيكوية (المستكملةِ فصولها في العراق بهندسة بول بريمر) أو في سياق عملية إدارة الاحتلال الاستعماري للبلدان العربية الواقعة تحت سيطرته، وتركيب نظام سياسي خلالها ورثته دولة الاستقلال، لكن الأدهى من طامة الهندسة «الكولونيالية» لهذا النظام أن دولة الاستقلال تمسكت به، واستمرت في إعادة إنتاجه مع علمها بما يتولد منه من أزمات اجتماعية وسياسية.
عاينا، في زمن مضى، فصولاً من تخريب الداخل الاجتماعي العصبوي لكيان الدولة الوطنية في لبنان والسودان والعراق. وها نحن ما نزال نعاين فصولاً أخرى من تقويض العصبيات للدولة، منذ هبّت عواصف «الربيع العربي» الهوجاء في العقد الثاني من هذا القرن، فضربت أركان الدولة في سوريا وليبيا واليمن، وهددت بذلك مصر وتونس لولا بعض من اليقظة الوطنية. واليوم، لم يعد من جدال في أن وحدة الدولة الوطنية وتماسكها، في وجه خطر التفكيك من الداخل، يتقدم أي مطلب آخر؛ بل ينبغي أن يصبح أول المهمات والأولويات البرنامجية على جدول الوحدويين العرب، بالنظر إلى أن العصبيات الأهلية وقواها المسلحة باتت حصان طروادة الاختراق الأجنبي وأداته التدميرية في الداخل الدخل الاجتماعي والسياسي العربي.