مع تغيّر الإدارة الأمريكية، وعودة الحزب الديمقراطي إلى السلطة، وإعلان الرئيس الجديد جو بايدن عن مراجعات واسعة في سياسة سلفه الجمهوري دونالد ترامب، تسود في العالم العربي، بما فيه منطقتنا الخليجية، مجموعة من الأوهام من جهة، والمخاوف من جهة أخرى. الأوهام بأن الإدارة الجديدة ستظهر اهتماماً أكبر بالصراع العربي – الصهيوني، وتمارس ضغوطاً على إسرائيل لبلوغ حلٍ للقضية الفلسطينية، أما المخاوف، ذات الطابع الرسمي غالباً، فتنحصر في خشية أن تمارس إدارة بايدن ضغوطاً على الأنظمة لتغيير بعض سياساتها.
الواهمون والخائفون على حدٍ سواء، يغفلون عن أمرٍ مهم، هو نفسه الذي ندعوه ب”ثوابت” السياسة الأمريكية على المستوى الخارجي، وهي ثوابت تضعها وتحميها المؤسسات الراسخة في البنية السياسية في الولايات المتحدة، التي تشكل ما يوصف ب”الدولة العميقة”، مثل البنتاجون و”سي. آي. إيه” وحتى وزارة الخارجية، فضلاً عن أن هذه السياسة محكومة بالتوازن الدقيق في تشكيلة مجلسي النواب والشيوخ، اللذين يشكلان معاً الكونجرس الأمريكي.
لقد حاول الرئيس السابق، ترامب، الخروج عن بعض، فقط بعض، تلك “الثوابت”، لكن ما نشهده اليوم يؤكد أن هذا أمر صعب جداً، إن لم يكن مستحيلاً، ففي خلال أقل من شهر على ولاية بايدن أعلن إلغاء سلسلة من قرارات ترامب، وأخضع بعضها للمراجعة والدرس، ما قد يؤدي إلى إلغائها أيضاً أو إدخال تعديلات عليها. وما يفعله بايدن هو، بالضبط، العودة إلى تلك “الثوابت” المحمية من أجهزة الدولة العميقة.
وعلينا أيضأً ألا ننسى أن “خروج” ترامب على بعض مألوف السياسة الخارجية لبلاده، لم يكن في جوهره، سوى المضي ببعض ثوابت تلك السياسة إلى حدودها القصوى، خاصة على صعيد الإنحياز لإسرائيل والعداء للحقوق المشروعة للعرب وابتزازهم مالياً، فنقل سفارة بلاده إلى القدس واعترف بالإحتلال الصهيوني للجولان السورية، وهذا بعض ما لم يعلن بايدن التراجع عنه، كأن ترامب أراح الديمقراطيين بتنفيذ رغبات الدولة العميقة.
غاية القول إن علينا، كخلجيين وكعرب، أن نصوغ السياسات النابعة من مصالح أوطاننا وشعوبنا، وتقوية الجبهات الداخلية لبلداننا، وإشراك الشعوب في صوغ تلك السياسات، والاستجابة لتطلعاتها المشروعة، وتجنيب بلداننا المخاطر المحدقة بها، عبر سياسة إقليمية ودولية متوازنة، لا تلقي البيض كله في السلة الأمريكية، لأن الرهان على أي إدارة أمريكية، جمهورية كانت أو ديمقراطية، هو من قبيل الوهم الذي تكشف عنه التجارب.