مائتا عام من فريدريك إنجلز
بقلم : Paul Blackledge
ترجمة: غريب عوض
عمل ستالين على تجسيد المُخطط التاريخي المُقدم في مُقدمة ماركس في عام 1859 لمُساهمتهِ في نقد الإقتصاد السياسي من أجل استبعاد مفهوم ماركس وإنجلز التقليدي عن “نمط الإنتاج الآسيوي” والتي كانا يهدِفان من خلالها إلى فهم العلاقات الطبقية القمعية في المجتمعات التي ليس لها علاقات مُلكية خاصة والتي يمكن نشرها بسهولة لإلقاء الضوء على العلاقات الطبقية في روسيا السوفيتية. وإذا كان المنطق السياسي وراء هذا القرار واضحاً بما فيه الكفاية، فإن حقيقة أنه أثناء محاولتهُ، تبرير دور الدولة في التنمية الإقتصادية السوفيتية، شعر ستالين مع ذلك بأنهُ مُضطر إلى قلب تفسير ماركس للعلاقة بين القاعدة والبُنية الفوقية، كما هو موضح في هذا المقال المشهور، حيث قام بِمُراجعة فكر ماركس وإنجلز ليس كجزء من تقليد متطور صُحي من التحقيق فحسب، بل من خلال المطالب غير المُتماسِكة المُرتبِطة بالمهمة الأكثر دنيوية المُتمثِلة في تبرير المؤهلات الإشتراكية “لمجتمع غير اشتراكي.”
وكما يحدث، ليس فقط فكر إنجلز غير المُتوافق مع الأيديولوجية الستالينية فحسب، بل أفكارهُ يمكن أن تكون وقد تم استخلاصها بشكل مُربِح لفهم جوهر الستالينية الثوري المُعاكس. وبهذا المعنى على الأقل، تُعبر مُراجعات ستالين للماركسية عن فهمهِ الأفضل للتأثيرات الثورية النقدية لفكر إنجلز مما هو واضح في أعمال العديد من الفصيل المُناهض لإنجلز: لإن أفكار إنجلز بالتحديد كانت انتقادية وثورية لدرجة أنها كانت غير مُتوافقة مع ديكتاتورية ستالين. وإذا ساعد الجوهر الثوري لفكر إنجلز في توضيح لماذا سعى ستالين إلى تحييد ماركسيته، فإن الآثار المُعادية للستالينية من عمله هي سبب وجيه لضرورة أن تسعى المجتمعات الحديثة إلى إعادة تقييم صادِقة لمُساهمتهِ في النظرية الاجتماعية والسياسية.
يمكن طرح نقطة مُماثِلة فيما يتعلق بمفهوم إنجلز الخبيث عن ديالكتيك الطبيعة. مُنذُ نشر كِتاب لوكش Lukács “التاريخ والوعي الطبقي” في عام 1923، تضمنت إحدى السِمات المُحددة لتقليد الماركسية الغربية، رفضاً لمحاولة إنجلز تجذير النظرية الماركسية في الفهم الديالكتيكي للطبيعة.
في هذا الكِتاب اقترح لوكاش بأنّ توسع إنجلز غير الموفق في مفهوم الديالكتيك من النِطاق الاجتماعي إلى النِطاق الطبيعي جعلهُ يهمل “التفاعل الأكثر حيوية، تحديداً العلاقة الديالكتيكية بين الذات والموضوع في العملية التاريخية”، والتي بدونها “الديالكتيك لم يعُد ثورياً.” ومن المُثير للإهتمام، أنهُ على الرغم من أن نقد لوكاش لفكر إنجلز كان لهُ تأثير قوي للغاية على الأدبيات المُناهِضة لإنجلز، إلا أنهُ سريع إلى حد ما، ولا يزيد عن تعليق عابر تدعمهُ حاشية سُفلية من اثنى عشر سطراً. إضافةً إلى أن هذا التعليق تمت موازنته بتعليقات أُخرى في النص بدت أكثر توافقاً مع حجج إنجلز، على سبيل المِثال، حيثُ كَتَبَ عن “ضرورة فصل الديالكتيك الموضوعي للطبيعة عن ديالكتيك المجتمع.” كما سيحدث في غضون عامين من نشر كِتاب “التاريخ والوعي الطبقي”، لقد كتب لوكاش بشكل أكثر جوهرية، وأكثر إيجابية بكثير، حول فكرة الديالكتيك في الطبيعة:
“من الواضح أن الديالكتيك لا يمكن أن يكون فعالاً كمبدأ موضوعي لتطور المجتمع، إذا لم يكن موجوداً فعالاً بالفعل كمبدأ لتطور الطبيعة قبل المجتمع، إذا لم يكن موجوداً بالفعل بشكل موضوعي. ومع ذلك، لا يترتب على ذلك أن التطور الإجتماعي لا يمكن أن ينتج أشكالاً جديدة وموضوعية للحركة، ولا الحركات الديالكتيكية، في تطور الطبيعة ستكون قابلة للمعرِفة بدون وساطة الأشكال الإجتماعية الديالكتيكية الجديدة”.
هذا المقطع دليل على أن لوكاش استمرّ في رفض الإختزال الفلسفي، دون الإنهيار، كما حذر أنطونيو غرامشي وكارل كورش من أنهُ نتيجة مُحتملة لرفض ديالكتيك الطبيعة، في “الخطأ المُعاكس … بشكل من أشكال المِثالية”. ولسوء الحظ، بينما لوكاش Lukacs وغرامشي Gramsci وكورش Korsch مَيّزا بين التفسيرات الإختزالية وغير الإختزالية لفكرة إنجلز عن ديالكتيك الطبيعة، يميل نُقاد إنجلز المُعاصِرون إلى الإصرار على أن مفهوم ديالكتيك الطبيعة يفسح المجال حتماً للمادية الميكانيكية والوضعية.
لقد جادل جون بالمي فوستر John Bellamy Foster بأن هذا النقد الموجه إلى إنجلز انبثق من تفسير أُحادي الجانب لما يُسميه بـ “مشكلة لوكاش.” في حين أن لوكاش، في كِتابهِ “التاريخ والوعي الطبقي”، جمع بشكل غير مُترابط بين إنكار أن الطريقة الديالكتيكية قابلة للتطبيق على الطبيعة بسبب البُعد الذاتي المفقود مع الإعتراف بوجود ديالكتيك مُميّز وموضوعي وطبيعي، فإن الماركسية الغربية تميلُ ببساطة إلى إنكار وجود ديالكتيك في الطبيعة.
وهذا الزعم لا يتعارض فقط مع ما نعرفهُ عن تعليقات ماركس الداعِمة بشكل عام لعمل إنجلز حول ديالكتيك الطبيعة، ولكنهُ يدعم أيضاً ميلاً قوياً نحو أشكال المِثالية الفلسفية. وبالتالي، بدلاً من استكشاف عمل ماركس بحثاً عن أدوات تُساعد في إبعاد الماركسية عن المآزق المُزدوجة للمادية الميكانيكية من جهة والمِثالية الفلسفية من جهة أُخرى، مال الماركسيون الغربيون إلى تقديم دعم لمشروع دق إسفين بين تفسير مِثالي لماركس وتفسير مادي ميكانيكي لإنجلز.
وفي تناقض مع هذهِ المُقاربة، على إثر تتبع جون بالمي فوستر لِكلٍ من أندرو فينبيرغ Andrew Feenberg، و ألفريد شمدت Alfred Shmidt، وضح كيفية، إنهُ من خلال مفهوم النشاط البشري الحِسي، يُقدم عمل ماركس الأدوات اللازِمة لفهم العلاقة الديالكتيكية بين الطبيعة والمجتمع. يقول جون بالمي فوستر، تفترض مادية ماركس ما يُسميه شكلاً من أشكال “التطبيق الطبيعي” التي من خلالهِ يُفهم أن المُمارسة الحسية للإنسان تتجسد في العالَم الحِسي.نفسه.
إن تصوراتنا عن العالم مُتجذِرة في حواسنا الطبيعية، ولكن، على عكس التجريبية، فإن الحواس التي من خلالها تدرك الطبيعة نفسها ليست مُجرد مُتلقٍ سلبي للمعلومات من العالَم الخارجي، ولكنها عمليات نشِطة ومُتطوّرة داخل العالم الطبيعي والتي يستمر تطوّرها ويتعمق من خلال تفاعل البشرية المُثمِر مع الطبيعة. ويصِرُ جون بالمي فوستر على أن مفهوم التطبيق الطبيعي مُتوافق مع مفهوم إنجلز المُنبثق من الواقع مع تجنُب مآزق القِراءات الأختزالية لعمل إنجلز.
علاوة على ذلك، والأكثر إثارة للأهتمام، أنهُ يُجادل بأن مفهوم التطبيق العملي هذا يتوافق مع الاهتمامات البيئية المُعاصِرة. ومن خلال تهيئة اهتمام علوم البيئة الحديثة بتوحيد البشرية مع الطبيعة، يفتح تصوّر إنجلز لديالكتيك الطبيعة مساحة يمكن من خلالها فهم الأزمات البيئية فيما يتعلق بالطبيعة المُنفرِدة للعلاقات الإجتماعية الرأسمالية. ولأن الإنتاج أولاً وقبل كل شيء هو تبادل استقلابي مع الطبيعة، فإن علاقات الإنتاج الإقصائية تتضمن علاقات إقصائية بالطبيعة نفسها. وبالتالي، فإن نفس القوى التي تدعم ميل الرأسمالية نحو الأزمات الإقتصادية تولّد اتجاهات موازية نحو الأزمات البيئية. وبالتالي، فإن فهم ماركس وإنجلز لِوِحدة الإنسانية والطبيعة يوحي بمنظور ثوري لهُ نِطاق سياسي واجتماعي وبيئي في نفس الوقت: لن تتضمن الثورة الإشتراكية مُجرد تحوّل في العلاقات الإجتماعية والسياسية، بل ستشمل أيضاً بالضرورة تحول جذري عِلاقة البشرية بالطبيعة. فالعلاقة الداخلية بين الأزمة الرأسمالية والأزمة البيئية تُخبر مُحاجة جون بالمي فوستر بأن إنجلز يزعم أن “الطبيعة هي البُرهان على الديالكتيك” يُمكن ويجب تصحيحها حتى تُصبح “إن “عِلم البيئة” قد أصبح “البرهان على الديالكتيك.” لذلك، في حين أن نُقاد إنجلز يميلون إلى إعادة تصوّر ماركس على أنهُ مُجرد مُنظّر اجتماعي، فإن كتابات إنجلز الفلسفية تُلقي الضوء على البُعد الإيكولوجي القوي لِفكرهِ وفكر ماركس، وبالتالي الصِلة الداخلية بين الإهتمامات البيئية ومُناهضة الرأسمالية.
تُوضح مُحاجة جون بالمي فوستر بقوة اعتقادي بأنهُ سيكون من الخطأ الجسيم إغفال مُساهمة إنجلز الأساسية والإيجابية للغاية والتي لا تزال ذات صِلة بالنظرية والمُمارسة الإشتراكية. ويُشارك فِكرهِ في نِقاط القوة المركزية لعمل ماركس، الذي غالباً ما كان يُخطط لمواضيعه، بينما قدم مُساهمات قوية ومُستقلة للماركسية في حد ذاتهِ. وأعتقد أن اليسار سيستفيد بشكل كبير من إعادة تقييم جادة لعمله.
إلى جانب ماركس، عمل إنجلز ثورة في النظرية: قام الإثنان بتجميع الإشتراكية الفرنسية والفلسفة الألمانية والإقتصاد السياسي الإنجليزي في منظور ثوري جديد للمجتمع. تمت صياغة هذا المشروع التعاوني الحقيقي من خلال وسيط غريب لِمخطوطة مُجزأة بقيت غير منشورة في حياتهما وقد نزلت إلى الأجيال القادِمة بإسم الأيديولوجيا الألمانية. وبالرغم من أن هذا النص يُمثل إشكالية، إلا أن إنتاجه يُمثل، كما كتب ماركس وكرّر إنجلز، لحظة أساسية من “توضيح الذات” تم من خلالها تأطير مشروعهما النظري والعملي اللاحق. وتعليقاً على هذهِ الفترة من حياتهُما، كتب كورش Korsch:
عمل ماركس وإنجلز خلال العامين التاليين بالتفصيل على التناقض السائد بين وجهات نظرهُما المادية والعلمية ووجهات النظر الأيديولوجية المُختلِفة التي يُمثلُها أصدقاؤهم السابقون من بين الهيغيليين اليساريين (لودفيغ فيورباخ، برونو، باور، ماكس ستاينر) ورسائل بيل الفلسفية “للألمان” أو الإشتراكيين “الحقيقيين.”
على النقيض من تقييمات كُلٌ من ماركس وإنجلز بأثر رجعي لأهمية اللحظة التي كَتَبَا فيها المخطوطات التي وصلت إلينا على أنها الأيديولوجيا الألمانية، فإن من سِمات الأدب المُناهِض لإنجلز مُحاولة التقليل من أهمية هذهِ المخطوطات دليل على لحظة مُحورية في عملية توضيح الذات الفكرية الخاصة بهما.
إحدى مشاكل هذا الخط من الجدل هي أنهُ بالرغم من أن الأيديولوجيا الألمانية لم يكن لها وجود قط على أنها كِتاب مُقتَرَح، فإن ماركس وإنجلز لم يعملا على صياغة أفكارهما في الشكل الذي حاولا نشرهِ في عام 1845-46. وكما أشار كارفر نفسه، فإن مُخطط طريقة ماركس المُبيّن في مُقدمته عام 1859 يتبع عن كثب لُغة الفصل حول فيورباخ في الأيديولوجيا الألمانية. بالإضافة إلى ذلك، يُجادل آرثر Arthur بأن جميع الأفكار من كِتاباتهما السابِقة يتمُ تجميعها في هذهِ المخطوطات من خلال فكرة أن الناس يصنعون أنفُسهم ويعيدون تشكيل أنفُسهم من خلال تفاعلهم الإجتماعي والمُنتج مع الطبيعة لتلبية احتياجاتهم المُتطوّرة. كانت هذهِ الرؤية مُتجذرة وموجهة نحو الشكل البروليتاري الجديد للمُمارسة الإجتماعية، وبإعتبارها فلسفة المُمارسة فقد تم اختبارها وتعميقها لأول مرة من خلال تدخل سياسي ملحوظ في الأحداث الثورية لعام 1848-49.
كان عقد الأربعينيات من القرن التاسع عشر لحظة توقع ديمقراطي كبير، عندما أدى عدم التوافق بين مؤسسات القوة الحالية في أوروبا من ناحية والواقع الإجتماعي الجديد للتطور الرأسمالي المُزدهر من ناحية أُخرى إلى إحساس مُتزايد بالتغيير الجذري في جميع أنحاء القارة. إذا كانت هزيمة هذهِ الحركة سبباً لتأملات ماركس وإنجلز المنهجية بشأن مُساهماتَهُما العملية والنظرية في الحركة، فإن عملهما اللاحق يُفهم على أفضل وجه على أنهُ توسيع وتعميق للنهج الذي صاغاه في أربعينيات القرن التاسع عشر: أصبح عام 1883 محكاً لكُل شيء كتباه وفعلاه. بعد ذلك، ظلّ تعاونهُما الفريد والعميق غير منقوص حتى وفاة ماركس في عام 1883، وبعد ذلك واصل إنجلز مشروعهُما من خلال أعماله السياسية والنظرية وكذلك من خلال التحضير (لإعادة) نشر عدد من كتابات ماركس بما في ذلك، والأهم (والأكثر إثارة للجدل)، المُجلدين الثاني والثالث من كِتاب رأس المال.
إذا كانت أساسيات ستراتيجية ماركس وإنجلز قد تمت صياغتها بشكل تعاوني في مُنتصف اربعينيات القرن التاسع عشر، فإن إنجلز كان يتحرك بالفعل في اتجاه مشروعهما المُشترك قبل أن يلتقي بماركس، وبعد ذلك قدم مُساهمات مُستقلة وهامة لعملهُما التعاوني. وغاريث ستيدمان جونز Gareth Stedman Jones مُحقاً في الإشارة إلى أن يظهر عدداً من الافتراضات الماركسية الأساسية والدائمة أولاً في كِتابات إنجلز بدلاً من كِتابات ماركس المُبكِرة: تحويل التركيز من المنافسة إلى الإنتاج؛ الحداثة الثورية للصناعة الحديثة التي تميّزت بأزمات فائض الإنتاج وإعادة إنتاجها المُستمر لجيش إحتياطي من العمل؛ جنين الحجة القائلة بأن البرجوازية تنتج حفاري قبرها وأن الشيوعية لا تُمثل مبدأ فلسفياً، بل تُمثل “الحركة الحقيقية التي تلغي الحالة الراهِنة للأشياء.”؛ التحديد التاريخي لتشكيل البروليتاريا في طبقة؛ التفريق بين “الإشتراكية والبروليتارية”؛ والراديكالية الصغيرة أو الراديكالية من الطبقة الوسطى الدُنيا؛ ووصف الدولة بأنها أداة للإضطهاد في أيدي الطبقة المالكة الحاكمة.
هذهِ قائمة رائعة بشكل لا يُصدق بكل المقاييس. ولكنها لا تروي القصة كاملة. بالإضافة إلى إكتشاف إنجلز المُشترك للطبقة العاملة كعامل ثوري مُحتمل للتغيير، كان أول اشتراكي يُدرك أهمية النِضال النَقابي للمشروع الإشتراكي. كما أنهُ وضع القواعد للفهم التاريخي لظهور قمع المرأة والنظرية الوحدوية لشكلها الرأسمالي. وإلى جانب ماركس، في كِتاب “الأيديولوجية الألمانية”، توسع إنجلز في مفهوم مادي للتاريخ من خلال توليف فكرة المُمارسة مع التصور التاريخي للمصلحة المادية، وبعد ذلك بوقت قصير كتب أول عمل من التاريخ “الماركسي” مُحرِضاً تقليدياً مُنتجاً ومؤثراً بشكل كبير.
في هذهِ المُسودات التي أصبحت البيان الشيوعي، طبق المنظور العام المُبيّن في الأيديولوجية الألمانية على السياق المُحدد لألمانيا في عام 1847، وصاغ مفهوماً ديمقراطياً عميقاً للإشتراكية كحركة دولية بالضرورة، والتي أظهرت بالمُصادفة أن الماركسية في بدايتها حالت دون فكرة ستالين عن الإشتراكية في بلد واحد.
وعلاوة على ذلك، ضد الأصوات الإشتراكية السائدة في عصرِهِ، أدرك إنجلز أن النِضال من أجل الإشتراكية لم يكُن لعبة مصلحتها صفر. لقد أصر على أنهُ ينبغي على الإشتراكيين دعم الحركات الديمقراطية البُرجوازية مع الحِفاظ على الإستقلال السياسي لحزب العُمال بهدف تحدي البرجوازية على السُلطة فورَ هزيمة الحُكم المُطلق. قام بتعميق نظرية “الثورة في الدوام” من خلال مُشاركتهِ في ثورات عام 1848 عندما لعِبَ، جنباً إلى جنب مع ماركس، دوراً رئيسياً كصحفي في رفع التحليل الإستراتيجي العام المُبيّن في البيان الشيوعي إلى مُستوى المُمارسة: توسعة وتعميق ونقل رؤيتيهِما على طول الطريق، وبعد ذلك، لعِبَ دوراً في الكفاح العسكري ضد الإستبداد البروسي. وبعد هزيمة هذهِ الحركة، ركّز الكثير من طاقاتهِ الفكرية على تطوير التحليل المادي للقوة العسكرية، وبذلك أصبح “الجنرال،” كما أصبح معروفاً بين أفراد أُسرة ماركس، أحد أكبر المُفكرين العسكريين في القرن التاسع عشر. وعلى الرغم من أنهُ تم رفضها في كثير من الأحيان على أنها مُجرد شذوذ، إلا أن كِتابات إنجلز العسكرية كانت ذات أهمية أولى للإستراتيجية الثورية في القرن التاسع عشر وظلت موضع اهتمام الإشتراكيين المُعاصرين على الرغم من أهمية التغييرات في القوة العسكرية خلال القرن التالي.
وربما الشيء الأكثر أهمية، هو أن إنجلز كسب أيضاً أجيالاً من الإشتراكيين إلى الماركسية من خلال نشرهِ الاسلوب الماركسي. وإلى جانب أعماله التعاونية، قام أيضاً بإعداد المُجلدين الثاني والثالث من ماركس رأس المال من أجل نشرهما – ورغم أن الدراسات الحديثة قد وجدت ثغرات في هذا المشروع، إلا أنهُ مع ذلك قام بمُهِمة شاقة في تقديم هذهِ المخطوطات بأكبر قدر مُمكن من الترابط. لقد استفاد اليسار كثيراً من جهودهِ.
وبالطبع، كانت هناك مشاكل كثيرة مع مُساهمات إنجلز في مشروع ماركس: حول إعادة التشكيل، ونظرية القيمة، والوطنية، ومُهمة صياغة نظرية وحدوية حول اضطهاد المرأة، من بين مُساهمات أُخرى، عانا فكرهِ من فجوات مهمة وأخطاء صريحة. لكن سيكون من الخطأ، والخطير في الواقع، السماح لنقاط الضعف هذهِ بأن تلقي بظلالها على حكمنا على مُساهمة إنجلز في الماركسية. ما قالهُ لينين ذات مرة عن روزا لوكسمبورغ يمكن أن يُقال بنفس القدر عن إنجلز: قد تطير النسور في بعض الأحيان إلى مُستوى أقل من الدجاج، لكن الدجاج لا يمكن أبداً أن يرتفع إلى ارتفاع النسور.” روزا لوكسمبورغ، كغيرها من المُفكرين الكِبار، ارتكبات أخطاء نظرية وسياسية كثيرة مهمة، ورغم ذلك كانت نسراً فكرياً وسياسياً. وبالمثل، مهما كان ضُعفهِ، كان إنجلز نسراً فكرياً وسياسياً تظلُ كتاباتهِ ذات أهمية أولى لنا في اليسار الثوري المُعاصِر الذي يهدف إلى تجنب قيود الإصلاحية دون االسقوط في الطائفية وفي الوقت نفسه يقوم بصياغة إشتراكية أخلاقية وبيئية التي تفلت من “العجز في العمل” الأخلاقي للكثير من الخِطاب اليساري الحديث.
*هذا المقال هو إقتِباس من مُقدِمة كِتاب Paul Blackledge الأخير، فريدريك إنجلز والنظرية الإجتماعية والسياسية الحديثة.