بعد سنوات من التجاهل والنسيان تنطلق النداءات: أعيدوا للمعلم هيبته التي فقدها. لسنا هنا بحاجة للتأكيد أن مهمة المعلم مهنة نبيلة وشاقة وعدّها البعض مقدسة. الإدارات المدرسية تركزاهتمامها علي تجميل المباني المدرسية ووضع نباتات الزينة ..جميعهم مهتمون بالشكل الخارجي فقط، أما المعلمون فلا يبدو أنها يثيرون اهتمام أحد. لا أحد يستشيرهم في بناء المناهج المدرسية.. ولا أحد يأخذ رأيهم في القرارات التربوية، ولا أحد يطلعهم علي الخطط المستقبلية بوصفهم المنفذون لها …قبل إصلاح أي خلل في المباني المدرسية كان الاولى إصلاح الحالة النفسية والعصبية للمعلم.
الجميع مدينون لهذا الإنسان ولعل أحد أدواره وأخطرها علي الاطلاق يتجسد في كونه القدوة والمثال الذي يحتذى به..ولعمري أي دور بتبقي له اذا فقده..
استحضر بالمناسبة مقولة لأحد المفكرين تقول: “اثنان لا يسمح لهما بالاستقالة من عملهما المعلم والطبيب ..فالطبيب مهمته سلامة جسد الأمة اما المعلم فإن مسؤوليته هو عقلها”.
اتذكر أنني قرأت قبل سنوات أن القضاة في ألمانيا طالبوا المستشارة ميركل مساواة رواتبهم بالمعلمين، فكان ردها كيف تريدون مني أن اساوي الطالب باستاذه؟ لن اساويكم بمن علموكم، أعتقد أن ميركل اختصرت الرد بكلمات قليلة لكنها تحمل رسالة بليغة لا إلى القضاة وحدهم، لكن الي الأمة الألمانية بأجمعها..كأنها أرادت أن تقول إن نهضة ألمانيا ومنجزاتها العلمية ما كان لها أن تكون، لولا جهود هؤلاء المعلمين ..ومن نحن لولا المعلمين ؟ إننا مدينون لمعلمينا كل حسب جيله.
التساؤل هنا لماذا يتمتع المعلم في ألمانيا وربما في بلدان اخري بدرجة تفوق الآخرين من أطباء وقضاة .؟ بخلاف ما هو سائد في البلدان العربية والعالم الثالث ؟ الإجابة ليست بحاجة إلي كبير عناء..إن تقديرهم للمعلم هناك يعني أنهم وضعوا الحجر الاساس للتنمية والتقدم، اما الحقيقة التي غفلنا عنها طويلا – ولا نزال – للأسف في إرساء نهضة تعليمية فإنها تتمثل ببساطة شديدة في أننا (استوردنا) النظريات من الشرق والغرب لكننا تناسينا تكريم المعلم ..ولذا ليس مستغرباً أن تأتي النتائج مخيبة للآمال..وبعكس ما توقعناه..
هل تأخرنا في إعطاء المعلم ما يستحق من مكانة؟ غالباً ما ينصرف الذهن أن المقصود بالتكريم يعني التقدير المادي وحده ..إن الجانب المادي لا يشكل إلا جزءاً من المعضلة… كون ميركل حرصت علي التقدير المادي فإن هذا لا يقلل منه، فمن حق المعلمين أن تتم مكافأتهم بما يستحقون نظير جهودهم الجبارة والا يضطر الكثير منهم إلى العمل الإضافي الذي يستنزف طاقاتهم الجسدية والنفسية.
أتمنى لو كانت هناك التفاتة إلى التقدير الآخر للهيئات التعليمية، وأعني ألا يتحول المعلم إلى موضع سخرية من طلابه وهذا لا يتم إلا بمنحه الصلاحيات التي كان يتمتع بها قبل سنوات، وإعادة النظر في الوسائل الكفيلة بالإرتقاء بالمعلم ..لأنه وحده كفيل بالنهوض بعملية التعليم.
وأيضاً لا بد من إصلاح الخلل في العلاقة بين المعلم وأولياء الأمور، ذلك أن نظرة هؤلاء الأخيرين للمنتسبين للتعليم يشوبها عدم الثقة واعتبارهم جلادين، أما المفارقة الباعثة علي السخرية أن الأغلبية من أولياء الأمور لا يسألون عن المستوي التعليمي لأبنائهم بقدر ما يمارسون استجواباً بوليسياً للمعلم، الأمر الذي أفضى إلى علاقات غير ودية في أغلب الأحيان يقع ضحيتها الطلاب..