كانت زوجته تنتظره بعينين مليئتين بالحيرة والشوق والخوف، وكان يهجس بينه وبين نفسه: كان من الصعب علي تركها في وسط الفراغ، وكان من الصعب عليها ثنيه عما آمن به واعتبره مدخلاً لاسعاد شعبه، فقالت له وهي تودعه: سأظلّ فيك ومعك حتى آخر العمر، حبك لوطنك وشعبك سرقك مني يا هاشم، أحبك وسأحكي كثيراً عن حلمك في كل مكان ولكل منَ ألقاه، في الأسواق والمقاهي وأثناء السفر وفي حلي وترحالي، النضال من أجل شعبك سرقك ألقه المذهل، وقادك نـحو الاستشهاد فكنت لا تقرّ ولا تستقر من أجل إسعاد شعبك.
فجر ذلك اليوم البعيد، الحادي عشر من سبتمبر من العام 1986، الدهشة والخوف يلفّ الوطن يوم أخذوك لزنازينهم المُظلمة. لا أتذكر الآن شيئاً مهماً سوى أني غضبت من صمتي أمام القتلة، هل كان ضعفاً أم خوفاً عليك؟ هي بعض مسالك الذاكرة ترتسم أمامي بعد كل هذه السنين الطوال.
آه يا قلبي المحزون مضى على استشهادك 36 عاماً، وها أنذا أظلّ فيك ومعك رغم تلك السنين. تذكرت الآن الطريق إلى المقبرة، البنايات، الشوارع، سوق المنامة القديم، المآذن، وجوه المارة، السيارات على جانبي الطريق، وهي تسير الهوينا والناس تحت فعل الدهشة مستاءة ومستنكرة ما حدث وكيف حدث وما الجرم الذي استدعى القتل الشنيع لطبيبٍ لا ذنب له.
أسئلة كثيرة تزاحمت بدماغي المثقل بالهموم، لكني فضلت الصمت أمام هذ المشهد الرهيب، مازال أذان الظهر في ذلك اليوم وأنا في طريقي إلى بيت هاشم يوقظ غفوتي من حين لآخر، وأمواج الحزن تتكسر عند أقدامي، باندفاع كان يفوق طاقتي على التحمل، تركت لدموعي أن تنهمر كالسيل وبلعت ألم الحمل وألم الفراق دفعة واحدة وأردت لصغيري الذي في بطني أن يعيش هذا المشهد الإجرامي الذي وضعني القتلة فيه دون أن يرقّ لهم جفن.
استعدت في لمح البصر لحظات الأيام الأخيرة بكاملها بقداستها وعنفوانها فأفقت مذعورة من هول ما حدث، وبصقت عليهم بكل ما أملك من قوة على ما فعلوه. هاشم نوري الذي أرى به الدنيا قتلتموه ويتمتموا طفلين لاذنب لهما. صرخت في وجوههم ورحت في غيبوبة الانفعال أُهدي كالمجنونة؛ لم تقتلوه ولكن شبه لكم، فالشهداء لا يموتون، الشهداء باقون. بعدها نزلت عليّ كآبة من الصمت لم أستطع تجنبها، تفاصيل كثيرة حدثت قبل أن أعود إلى المنزل نسيتها في ذلك اليوم الخميس المشؤوم الثامن عشر من سبتمبر في العام 1986.
قال لي هاشم: حلمنا بتطهير البلد من الفساد والظلم لينعم الوطن بالطمأنينة، ماذا بقي بين أيدينا غير الخوف والقلق على مستقبل أولادنا وأحفادنا، فلن يكون طريقنا معبداً بالورود، بل بالنضال ضد الخوف والهزائم الذاتية لنتستعيد ثقتنا بقدراتنا على مواصلة المسير.
طوقني فجأة وجه هاشم كالنسمة الدافئة في يوم شتوي ملئ بالحب والحنان بعد تذكري ما قال، فاستعدت ثقتي في نفسي وقلت سأظل فيك ومعك إلى أبد الآبدين، وهآنذا أقول بأن قلبي كان يحدثني إن ما خفي أفجع مما حدث وعند ذلك سبقتني دمعة مثقلة بالحزن والحنين فأبعدت كل وساوسي ورحت في حزن عميق.
إعلموا أيها الرفاق بأن هاشم كان يعشق الحياة لدرجة الوله، فحبّب إلينا كل الناس وصار محبوباً من كل الناس فحمل روحه على كفه ورحل من أجل الناس، وهو مبتسم بتلك الابتسامة الساحرة والساخرة من المعذبين والقتلة. رأيته قبل استشهاده في المحاكم يجرّ جسده النحيل بصعوبة كبيرة والقيود في معصميه وبتلك الثوب البيضاء وبابتسامته المميزة أومأ إلينا، وكأنما يحاول أن يستقبل موته بأكبر فرح ممكن وبأكبر نشوى وكأنما يسخر من جلاديه وما قد يصدر عليه من حكم وكأنما يقاوم بموته سلطان القتلة.
تقول ما أحوجني إليك الآن وإلى طلتك البهية، لأستعيدك كما أشتهي دوماً لرؤيتك ففقدك يؤلمني ورحيلك يؤرقني وبعدك يقتلني، فأنت الزوج وانت الرفيق والحبيب، وبعد أن أعدت شريط حياتنا الهاربة إنسحبت ووضعت رأسي بين يدي، وطفرت دموعي الفائضة لأقول: هو لم يمت ولكن شبه لهم فالشهداء لايموتون وإن غابوا عنا فهم حاضرون بيننا وساكنين في حنايانا ومُهجنا.
هل تعلمون بأن هاشم جاء إلى الشهادة وهو في عز عشقه للحياة دفاعاً عن المحرومين والمضطهدين والفقراء، رأيته وأنا أحاول أن أغمض عيني لأراه للمرة الأخيرة، وهو ينوء بأثقال حنينه إليهم، إلى أحبائه الكادحين أراه في “حبات البذار” و”نشيد الأممية” وفي أغاني العراق الوطنية ومسارح موسكو ينشد أشواقه وأحزانه.
أراك بصفائك وعنفوانك كنت الشجاع الذي اخترق الخوف وفتح لنا أمل التغيير بتلك المعنويات التي تهزّ الجبال وبتلك الإرادة الفولاذية التي عجز القتلة عن كسرها، فأقسم بكل غالٍ ونفيس إنه لن يسلم لهم ما أرادوا معرفته عن رفاقه فزادهم حقداً وكراهية عليه، وماتوا بغيظهم قبل أن يقتلوه لكن هاشم لم يمت بل شُبه لهم، شُبه لهم.
كارثة ذلك اليوم من الصعب عليّ استيعابها، أمضيتُ وقتاً طويلاً استرجع شريط لحظات استشهاده وهو الانسان المسالم، الرقيق، الأنيق، الطبيب، لم يحمل سلاحاً ولا حتى حجرا لمقاومتهم، ولكن حقدهم الأعمى قادهم إلى هذه الجريمة النكراء. كان الرعب يُقرأ في عيونهم منذ اللحظات الأولى لاعتقاله، ظلت حيرةٌ ما تؤرقني كيف تجرأوا على قتل هاشم ذلك الانسان الرقيق، طيب القلب الملئ دوما وأبداً بعزة النفس والمطمئن إلى ما يفعل، إنه العمى الذي يعمي البصر والبصيرة، ماذا ربحوا بقتله؟
كانت تقول كل شيء ينبئ بعد استشهاده بجرح لن يندمل أبداً، بل سيزداد عمقا عبر هذا الزمن القاسي فأي خراب يملأ قلبي بعدك يا هاشم؟. كنت أصرخ في صمتي ويأسي لكن ذلك الصوت وتلك الآلام يطويها الزمن المفقود والفراغات المخيفة. أحاول أن أُُسمعهم شتائمي ودعواتي عليهم بما اقترفت أيديهم الملطخة بالدم، علهم يعرفوا مقدار الدمار الذي خلفوه. كان هاشم يعلمني كيف أنتزع الضحكة من ظلال الأحزان، لكن الدنيا تغيرت ولم تعد دنيا، والبلاد لم تعد لأهلها فكل شيء تغير حتى النفوس وكل شيء فقد طعمه بعدك يا نور عيني ويا مهجة فؤادي. مسحت الدمعات التي انزلقت من عينيها في غفلة منها واستحضرت بيت من شعر لبدر شاكر السيياب: “ولولا خيال في الدجي منك عادني/ لذاب مع الأنفاس قلب بأضلعي”.
فوجه هاشم ما يزال كالشمعة في ذاكرتي تضئ لي ما تبقي من حياة، له سحره الخاص، فلم أر شبيهاً له في حياتي، فلا أحد سواك يملك هذا النور المتوهج في عمق الظلمة فأنت ضوئي وضيائي. كل شيء تمّ داخل صمت مطبق بعد الإنتهاء من مراسم الدفن، وعلى الرغم من الجرح الذي يخط قلبها وفجيعتها تساءلت في حيرة كيف تُقتل نفس بريئة وبأي ذنب قُتلت؟