هناك قول يبدو من ملسماتنا اليوم، والذي يرى بأن الجهاز الهضمي غير مستقل عن النشاط العقلي بل يظل عنصراً متواطئاً سلبا أو أيجاباً. قال المسلمون قديماً: “البِطنَةُ تُذهِبُ الفِطنة” ويقال أيضأً: “العقل السليم في الجسم السليم” ولا يُقصد هنا بالسليم حسب المناظير الجمالية، كأن يكون وفق مقومات محددة، أو يكون خاليا من أي إعاقة بدنية، ولكنه يبدو جليا للعيان أن الحالة المزاجية تؤثر بشكل أو بآخر على حالتنا الهضمية، والعكس صحيح، فنمط الغذاء السيء قد يبلد الحواس ويشعرنا بالخمول المزمن إذا ما تحول لعادة يومية. ونمط الغذاء الجيد يحسن من وظائف الجسد وبالتالي وظائف العقل.
كان هناك اتجاهاً فلسفياً طاغياً يرى بأنه لبلوغ أقصى درجات الحكمة على الإنسان أن يهمل الجسد ومتطلباته، وهذا الرأي كان يرتبط بالصورة التي يرى فيها أهل هذا الفكر العالم والوجود. فقد تبنت بعض المدارس الفكرية الإسلامية النظرة القائلة بأن العالم مكون من سبعة أفلاك، الفلك الأول هو الأكثر قرباً من البارئ وبهذا هو الأكثر نوراً، وكلما هبطنا إلى فلك أدنى خفت هذا النور، حتى نصل لعالمنا، عالم المادة المظلم والمحجوب، ولتخطي هذا الحجاب على الإنسان أن يتخطى حاجات الجسد المادي، أو يهملها، فلا يمكن أن تتلقى نور الله أو الحكمة إلا بمجاهدة النفس ضد مطالب الجسد.
لا بد لهذه الأفكار أن تكون لها جذور أفلاطونية، حيث يرى أفلاطون أن الانفعالات تقيم في الجسد إقامة ضرورية، إلا أن الفكر كما النفس فإقامتهما عَرَضية. ولكن، إذا كانت الانفعالات والتحكم بها مصدرهما العقل، وبأن العقل يكمن في الجسد، فإن التفكير سيكون هنا بمثابة النقيض للجسد والذي لا يتم ويتكامل إلا بتغييب الأخير. هكذا حدث أن التأمل عند بعض الاتجاهات الفلسفية والدينية والوصول إلى الله أو الحقيقة يرتبط بإماته الجسد أو إهماله.
إن ما يعزز إهمال الجسد هو أننا سنجد نموذج من المثقفين يُعتبر قدوةً لدى البعض، فهو لا يهتم بالنمط الغذائي، ويأكل بنهم أو يتناول أطعمة تساهم في مضاعفة عِلّات البدن، أو لا يهتم بالهواء الذي يستنشقه فيدخن بشراهة عالية، ويفضل الجلوس على كرسي خشبي منشغلاً بما يسمى “بحثا علميا” دون أن يضع له برنامجا يومياً يحرك فيه أعضاء بدنه.
إننا لا يمكن أن نصل للعمق من خلال سطح ميت، فالحواس هي المصدر الرئيس للمعرفة، إن هذه البلادة البدنية تقود إلى بلادة الحواس أو حسب قول نيتشه إلى بلادة ذهنية: “إن خمولاً صغيراً في الأمعاء يكفي إذا ما تحوّل لعادة سيئة أن يجعل من العبقري شيئاً رديئا”. ربما يكون نيتشه أكثر من اهتم بالجسد والحث على الاهتمام به، حيث كان يحرص على أن يهتم الإنسان ليس فقط بالغذاء، بل بالهواء الذي يستنشقه، وأن يأخذ كفايته من النوم أيضاً، وأن يحرص على الحركة والرياضة.
كان أتباع المدرسة المشائية يمارسون التفكير أثناء المشي، لربما اقتداءً بأرسطو الذي كان يلقي بعض دروسه ماشياً، وقد لاحظت أن كثيرا من الأفكار الجيدة والحلول للمشكلات تأتي الإنسان حين يمارس رياضة المشي، خصوصا في المناطق المفتوحة، فنحن نفكر من خلال أجسادنا، ليس لأن العقل وحده يكمن في الجسد، بل لأن العقل والجسد هما شيء واحد، وإن عملية التفكير ليست حصرا على الدماغ وحدة، بل هي عملية تشترك فيها جميع حواسنا وأعضائنا البدنية، وحتى صورتنا الخارجية ومظهرنا يؤثر على صورتنا الداخلية وثقتنا في أنفسنا. لذا فالحرص على الاهتمام بالجسد وصحته هو بمثابة اهتمام بالعقل أيضا وينم عن ذاك التوازن في تفكيرنا ونظرتنا للحياة.