لم يدر في خلدي أن أكتب يوماً عن القامة الوطنية والثقافية والتنظيمية، الرفيق الفريد سمعان، فقد كنت دائما أسير بجواره، وانظر إليه كما لو أني انظر لواحد من رفاق فهد، فقد عاصره واستمع إليه، وحمل الأمانة في مجال الثقافة والتنظيم. فالشاعر الفريد سمعان، ليس شخصاً عادياً فقد وجد في خضم مشكلات العراق منذ الثلاثنيات مناضلاً في صفوف الحزب الشيوعي كشخصية وطنية وقفت عبر تاريخ العراق مع أهم تحولاته: مشاركات فاعلة في المظاهرات، أنشطة ثقافية، رئاسة مؤسسات للأدباء، محامياً للدفاع عن حقوقهم، مظلة للفقراء والمعوزين.
عندما جئت بغداد من البصرة عام 1970، كان من بين الشخصيات التي شكلت عينّة من المناضلين الذين التقيت بهم في مقر مجلة “الثقافة الجديدة” في الباب الشرقي: الفريد سمعان، وابو كاطع (شمران الياسري)، عبد الرزاق الصافي، وفخري كريم، والدكتور صفاء الحافظ، ومن أول جلسة تداول بشأن الثقافة العراقية، قال لي الفريد: نريدك أن تكون ناقدنا الذي يغطي نشاطات الأدباء للمجلة.
ما كان وجودي في بغداد إلا للاستزادة من العلم والثقافة، وأكون قريباً من نبض الحياة اليومية، وبالفعل كان الفريد سمعان النافذة الحيّة لي عندما جنّد نفسه لتمابعتي والاهتمام بي كأب يرعى الناشئة من الأدباء، وأول حصاد لي مع الزميل الناقد فاضل ثامر هو كتابنا المشترك” قصص عراقية معاصرة”. قرأ الفريد سمعان مقالتي النقدية وصوب أخطاءها وقوّم منهجيتها.
بعد أقل من سنة انتظمنا سوية في خليتنا الحزبية التي كان يقودها، وكنت من بين زملاء أدباء وفنانين نؤسس شيئاً ثقافياً متميزاً هو نتيجة لما مرّ الحزب الشيوعي فيه من إنتكاسة في خطوطه الثقافية بعد شباط الاسود 1963. فأعدنا خطوط المثقفين، وكان الفريد أحد القادة الميدانيين الذين يتابعون عمل خليتنا الفتية. يأخذ بأيدينا في حلقات تثقيفة وتنظيمية أنتجت نواة للهيئة الإدارية لاتحاد الأدباء الذي أعيد تشكيله عام 1972. بعد أن الغى البعثيون الاتحاد وحوّلوا مقره في ساحة الأندلس إلى مركز شرطة للجوازات.
اتسعت خطواتنا، واتسع الشارع العراقي بنا، واتسعت اشغال الثقافة والمثقفين، فصدرت جريدة “طريق الشعب” لنجد أنفسنا مع نخبة مدربّة من المثقفين يشكلون النواة الصلبة لقيادة الثقافة العراقية، كانت مميزاتها الوضوح والإرتباط بالثقافة الوطنية وانتاجها الأدبي والفني، كانت “طريق الشعب” مدرسة، لتصبح جامعة بصفوف أدباء ومثقفين وسياسيين، كان الفريد سمعان في قمة القيادة فيها، وفي خضم الحياة اليومية للشارع الثقافي الوطني.
في هذه الفترة التي استمرت لعام 1978 حيث اتسع ميدان العمل الوطني فضربت الجبهة الوطنية، كان الفريد يستضيف عدداً منا في بيته، وفي مكتبه حماية من ملاحقة الأمن، أو كفالته لمعيشة لمن لم يقدر منا على تحملها.
بعد عام 1978، وحيث تمت الهجرة القسرية لمجموعات المثقفين العراقيين، بقي الفريد في العراق، كما بقيت أنا، وجدت الفريد وحده في الشارع الثقافي الوطني، لايزال يحمل همّ الحزب والثقافة، كان يحذرنا من الخروج العلني، وعلينا أن نحترس كثيراً. كنت التقي به في سوق الشورجة حيث عملت لي دكاناً صغيراً للعيش، وفي مكتبه في شارع السعدون المحاط بالأمن نقضي بعض نهار، نشرب أو نعيد بعض ما مضى أو نتبادل بعض المنشورات، كانت خطواته لا يمكن احتسابها عندما تجده. الفريد لم يهاجر، ولم يهادن، ولم يخضع لظلم أو يستسلم لمخاوف.
كل شيء بعد عام 1978 تفكك، بقينا نخطو بقدمين فارغتين من اي مرسى مثلما كنا نسير إما إلى “الثقافة الجديدة” أو “طريق الشعب” أو لاتحاد الأدباء أو ل”الفكر الجديد”، الآن أصبحت أقدامنا فارغة من الجهات التي نقصدها، لم يبق لنا إلا الزيارات المتباعدة واللقاءات التي لا يحددها زمن أو مكان، هكذا بعدت بنا الأيام لأجد نفسي مرات عديدة التقي الفريد في الأسواق أو في الدرابين القريبة من مقر مكتبه، أو في بيته البعيد. ومن خلال هذه الخطوات كنا نتبادل منشورات الحزب وآخر مستجدات الأخبار، وبعض مايصلنا من أدبيات يجلبها لنا أصدقاؤنا الكرد من الشمال عندما يزورون بغداد، ومع كل لقاء مع أبي شروق يوصينا بالحذر وتوخي المراقبة والانتباه، فالسلطات مازالت خائفة من أقدام الشيوعيين التي تسير في شوارع العراق ومدنه وجباله وأهواره وسجونه وبيوته المخفية. لازلنا نتلمس وجودنا في عين الألاف من الناس الذين يعرفون من نحن، وما هي خرائطنا لبناء العراق. وقبيل هجرتي من العراق التقيت الفريد في مكتبه بشارع السعدون لأبلغه بالهجرة وعدم العودة، قال كن على حذر، فللسطة أذرع في الخارج أيضا. ولم ينس ان يدس في جيبي بعض النقد.
وحينما استقرّ بي المطاف في هولندا، وعرفت أنه في المانيا اتصلت به، ووسط ضحكاته وقفشاته عرفت أنه سيعود للعراق ثانية، فقد جاء بزيارة عابرة لابنه، سيعود بعدها لعرينه في شارع السعدون. لقد كان نموذجاً للإنسان الوطني الملتزم بقضايا شعبه، تمر السنون ويصل عمره الى الثانية والتسعين، ولايزال معين الفريد سمعان يغطي على خطوط المثقفين والفنانين، فأي طاقة يملكها هذا الرجل الذي واصل النضال من سجن إلى سجن، ومن مظاهرة إلى أخرى. فقد كان نموذجنا الوطني بامتياز.