سلامٌ على روح الصديق الصادق الأمين رائد الفكر التنويري وسيد شيوخ النضال السلمي الاستاذ الأديب، أديبُ درب النضال، إسحاق الشيخ الذي قَدَّسَ القلم الذي به سطر من أحرف النضال كلمات الخير والعدل والحق لجموع الناس وخاصة الكادحين الذين بقوة سواعدهم تولدت ونمت وترعرعت الحضارات منذ ولادة الجنس البشرى إلى ما شاءت له الاقدار من الوجود على مسافات الزمان، لقد كَرَّسَ فكره وقلمه من أجل الكادحين ومن أجل إعلاء راية الوطن وطهارته ومكانته.
منذ أن وعي، وهو بعد في صبا الفهم والإدراك، إلى أن بلغ الوعي عنده نضج الخبرة واكتسب أنفاس الحكمة، وقبل النفس الأخير، وهو يحمل همَّ الكادحين والمظلومين… كان وعيه الحكيم يحمله عبء الآلام وهو يرى حال الكادحين، وتثير فيه حيرة غاضبة وهو يرى عبث الظالمين…
مع رفقة الناس كان رفيقه القلم، ومع القلمُ يتحادثان، تتوارد الافكار في ذهنه وينسج القلم خيوط فكره، هكذا كان يقضي مع القلم جل الساعات من ساعاتِ يومهِ دُونَ مَلَلٍ ولا كلل، وكان يجدد طاقاته مع سطور القلم… ترافق مع القلم رِفْقَةَ ما يربو على السبعين ربيعًا، ما مَلَّ القَلَمَ وما خَذَلَهُ القَلَمُ، أعطى للقلم رائحةً عندما كتب سِفْرَ كتابٍ أسماهُ «إني أشم رائحة مريم»، يرسم فيه ذكريات الطفولة إلى مراحل النضج الفكري، و كانت أمه مريم ذاك الخيط الحريري الناعم الذي ربط الأحداث من وعي الطفولة الى نضج الوعي، وكان يشم رائحة الحب في أنفاس أمه مريم، وكان بموازاة أنفاس أمه مريم يشم الخير والعطاء في أنفاس الكادحين من الناس، الكادحين الذين كَرَّسَ جهد فكره وطاقته و قلمه نضالاً من أجل حقوقهم و كرامتهم.
قرأ لشيخ الصوفية جلال الدين الرومي قراءة المعجب والناقد والمحتار… فكتب من وحي ديوان المثنوي معنوي وديوان شمس الدين التبريزي رواية فلسفية عنوانها «في حضرة جلال الدين الرومي» ولم يكن مثل سابقيه التقليديين الذين عبروا في كتبهم وأسفارهم عن الإعجاب المطلق بكل ما جاء به جلال الدين الرومي، بل تخطى خطوط الإعجاب المطلق الى المحاور المعجب حيث الإعجاب، والناقد حيث النقد، والمحتار حيث الحيرة، فالرواية حقاً تكملة جدلية فكرية لتجليات صوفية روحانية صاغتها نقاوةُ الكَلِمِ وبلاغةُ الشعرِ وسلاسة السردِ، ونقدٌ لجلال الدين الذي لم يجرؤ أن ينتقده كاتب سوى قلة نادرة، تلك القلة التي تمكنت من سبر غور نفسية صاحب المثنوي وصديق شمس الدين التبريزي، فكان النقد للرومي أقرب إلى التوبيخ لأن صاحب المقام الصوفي ما ذكر رفيقة حياته ولو بكلمة، وكان بهذا التقد يتكلم بلغة المناضل من أجل رفيقة الحياة، أي من أجل المرأة.
كان يسطر بالقلم حروفًا من إرهاصات النضال ليوصل فكراً ينادي بحب الانسان للإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة… ما كان يداهن ولا يماري ولا يراوغ وهو ماسك بالقلم في رسم الفكر وطرح الرأي ونقد الأخطاء والتصدي للخطيئة والحقد والاٍرهاب، كان قلمه سلاحًا يرمي به للفتك بغيلان الاٍرهاب وقطع جذور فكر الحقد ونهج الاقصاء وحماقة التكفير وهوس الترهيب، كان يرى في الاٍرهاب شيطاناً تخطى معادلات النسبية الى أقفال المطلق بغض النظر عن طبيعته ومصدره، بغض النظر عن صمته وصراخه، فقد كان يرى في صمت الاٍرهاب تخطيطًا للارهاب وفي لعلعة صراخه سمومًا يبثها في نفوس الناس، أما عمل الاٍرهاب فالقتل سحلاً والهدم دمارًا، وإذا ما صعد الإرهاب على عروش السلطة فقل على الناس والعالم أجمعين السلام… كان مؤمنًا إيمانًا مطلقًا بمحاربة الاٍرهاب، وسلاحه في هذه الحرب الشعواء نور الفكر ورسم القلم…
اتخذ من القلم رفيقًا ومن الفكر التنويري غذاءً وهو يشق دروب النضال السلمي الى ذاك المصير الذي يرمي أن يتحقق فيه العدل والسلام والرضى والأمان لأبناء جلدته.
كان يمقت الطائفية ويرى فيها نفسًا من أنفاس العنصرية وشكلاً من أشكال الاٍرهاب، الإرهاب بِسُمِّهِ الفكري وسيفه القاتل و سطوته الخانقة، كان يتصدى للطائفية وجميع أشكال الاٍرهاب بِنَفْسِ النَفَسِ النضالي. وقف وقفة المناضل والمدافع الواعي ذو البصيرة النافذة مع المشروع الاصلاحي لجلالة الملك، وكان يرى فيه بادرة أمل للارتقاء بالوطن البحريني إلى مستوى الدول الديمقراطية الراقية.
ومجلسه العامر كان ملتقى الصداقة ومنتدى الفكر والتفاكر والتعاطي في شؤون الأدب والفن وتناول مواضيع السياسة وحقوق الانسان، يجمعنا مساء كل جمعة في بيته، بيتُ الكرمِ والضيافة، يبتسم لنا ابتسامة الأخ الكبير و المعلم المتواضع عندما يسمع منا رأيًا أو فكرًا مغايرًا لما يراه، فنتناور حينها حول بَعضنا بأشكال وأنواع من منطق الكَلِمِ وأدوات الحوار إلى أن نصل إلى محطة نشترك فيها بالرأي أو يحتفظ فيها كل بموقفه وكلنا يحترم الآخر حيث حَطَّ فيه رحالُ الحوارِ برأيه، كان راقيًا في الحوارِ منفتحًا على الإختلاف في الرأي، فمن لنا بعده في مجلس نصارحُ فيه الرأي والفكر دون تحفظ وفي جو من الحوار الودي والراقي المثمر والحر، الحر في جوهره ولُبِّهِ وحتى قشوره…
مثلما المسيح الذي حمل صليبه بقوة الإيمان مرورًا عبر دروب الآلام إلى روضة السكينة الأبدية والسلام المطلق، حمل الفقيد رسالته بقوة الفكر وخطّ القلم الى آخر أنفاس حياته، أنفاسٌ تنطق بالمحبة والسلام… وَدَّعَ أحِبَّتَهُ مٍنَ الأهلِ والأصحاب والكادحين وافتقده القلم الرفيق المطيع الصامت، وترك الذين أحبهم ويحبونه في فراغ كبير عميق، وشأنه شأن جمبع المناضلين والعظماء سيبقى حيًا في الضمائر الحية وخالدًا ناصعًا في ذاكرة التاريخ…