في البحث المضني عن الحلول الواقعية، الفعلية للأزمات العميقة التي تواجهها بلداننا العربية، وفي محاولات رسم ملامح مستقبل يستجيب لحاجات التطور يبدو، كما كتب د.سناء أبو شقرا في مجلة الطريق اللبنانية قبل ثلاثة عقود، أن على المثقفين العرب أن يبدأوا دائماً من البداية.
انها ضرورة قاسية ولكنها ضرورة يفرضها التجدد الدافق في واقع مثقل بالاحتمالات والمفاجأت، تفرضها متغيرات العصر والعلم، ويعيدنا إليها باستمرار وعينا لهذا الواقع المحدد، مستواه وشروطه وأدواته، وعينا الخاضع لمؤثرات لا تحصى بدءاً من بنيتنا الفكرية المركبة والمعقدة من فهمنا لتراثنا وكيفية تناولنا والهامنا إياه بوسائلنا وأنظمتنا الفكرية والمعرفية، بأحلامنا ومصالحنا وأمزجتنا وصولاً إلى هذه الهزات العميقة التي تنتاب الفكر المعاصر دون توقف وعلى كل بقعة من الأرض.
ومسألة البحث بحدّ ذاتها ليست اكتشافاً جديداً فالهدف النهائي، بالنسبة لنا كما لغيرنا من شعوب الأرض، يتلخص في تحقيق إنسانية الإنسان ومن دون عوائق، ولن يتم ذلك، لنا ولغيرنا من دون أن تتحقق في المجتمع الذي نعيش فيه، تلك الشروط التي تجعل المجتمع امتداداً متناغماً للفرد، وتجعل من الفرد عنصراً لا غنى عنه للنوع البشري، للحياة كلها.
أين نحن من ذلك ، على أي درجة من سلم الأهداف النهائية تضعنا حقائق التاريخ المُرة في هذه البرهة البطيئة العبور؟. ما السبيل للتغلب على ما يجعل مجتمعاتنا بالجملة رهائن لقوى خارجية وداخلية لا تكترث اصلاً إلا لمصالحها هي، وصراعاتها مع الآخرين؟ ما العمل لبعث معاني الكفاحية الإيجابية في الإنسان المسحوق، المغَرب الآن عن نفسه وعن مصير مجتمعه وعن الحضارة البشرية، وليكون هذا الانسان نفسه مبدعاً للمدنية وكاتباً للتاريخ؟
لا حل فعلياً لهذه المشاكل في ميدان الفلسفة والتنظير الصرف. الحل هو في تحويل الوعي النظري لها إلى مشروع سياسي – اقتصادي – اجتماعي – ثقافي شامل ومترابط، مشروع قادر على شق جدار الرصاص لتنفذ إلى الناس أشعة حلم قابل للتحقق.
وأول شرط لهذا الحل هو المعرفة العلمية ، الموضوعية، التي تسمح بتغيير فعلي لواقع يفترض أنها حوّلتها أصلاً باستيعابها النظري له، ولا يمكن للمعرفة أن تكون علمية وموضوعية إلا إذا كانت محصلة لجملة من المعارف المتعددة الاختصاصات، والمتعددة المحاولات والتجارب كذلك، محصلة لأرث من البحث الشريف المتجرد، وتتويجاً نوعياً لتراكم الخبرات ووجهات النظر والآراء.
وهذا يستدعي قبل كل شيء التخلص نهائياً من “عصمة التراث” وإدعاء احتكار الحقيقة، كل مافي مجتمعاتنا العربية تحديداً يجب أن يكون موضوعاً لهذه المعرفة ومادة لبحثها، لكشف قوانين تطورها، الأساسي فيها والثانوي وتحديد ميادين فعل هذه القوانين بدقة، وموقع دور قوى المجتمع في رسم وجهة قوانين التطور وتعين أهدافها. خلاصة رأيه….هل نستطيع بعد اليوم كيساريين أن نكتفي بما نعرفه من مفاهيم نظرية لفهم واقعنا وتغييره؟ هل نكتفي بما أنجزنا كقوى أو كأفراد من تحديد لمستوى تطور بلداننا ولدور القوى الاجتماعية المختلفة؟ هل قدّمنا ما يرضي العقل الباحث المدقق من فهم العوامل الفاعلة في حركة تطورنا التاريخي في الماضي البعيد والقريب وتلمسنا على ضوئه، بدقة العلم، بدايات واقعية لمشروع مستقبلي؟
عموماً هل نستطيع أن نقول إننا نعرف واقعنا وأنفسنا، لا في مفهوم فلسفي مجرد بل بما يكفي لجعل هذه المعرفة أداة ومنهجاً لفعل التغيير؟
من هذا المنطلق يبدو لنا أن تبلور مشروع نهوض عربي جديد يمر حكماً عبر قناة الحوار وتبادل الرأي والتجربة بين كل من يملك هاجس دفع دولنا قدماً في طريق التقدم.
وهذا لايمنع حكماً سعي كل طرف إلى “الكمال” في تطابق تصوره عن الواقع والواقع نفسه ولكن من دون إملاء النتائج والأدوات على الآخرين. وحدها ديمقراطية الحوار تمنح الحوار جوهره الهادف، ولا يحق لأي منا أن يقدم تجربته نموذجاً، فكل “النماذج” لم تكتمل إلى غاية محققة معصومة، على الأقل بالنسبة لدعاة التحرر الوطني والاجتماعي، دعاة المساواة والعدالة.
ما كنا لننشغل إلى هذا الحد بضرورة الحوار لو كان الحوار برأينا قائماً كما يجب أن يقوم، وعلى محاولات اصيلة وجادة تبادر إليها هذه الجهة أو تلك. إن الأزمة القائمة والإشكاليات النظرية والعملية التي تواجه طريقنا في البحث عن الحلول تلزمنا، موضوعياً، بجهد مشترك، لمواجهة هذه الأزمة وهذه الاشكاليات بصورة دقيقة ومحددة من أجل تقديم جواب دقيق ومحدد.
التحدي ، اذأ، تحدي المعرفة والتغيير، لا يترك هامشاً للتردد بين الإنخراط في الحوار وبين سلبية الإتكاء على قناعات أزلية صالحة لكل زمان ومكان.