ربما من السابق لأوانه الحديث بشكل تفصيلي عن مشروع الميزانية العامة للدولة الذي رفع نهاية شهر نوفمبر الماضي من قبل الحكومة للسلطة التشريعية بغرفتيها، فالميزانية كمشروع ستخضع خلال الأسابيع القليلة القادمة لمزيدٍ من البحث والتمحيص والقراءة فيما بين اللجنتين الماليتين بمجلسي الشورى والنواب من جهة والحكومة من جهة أخرى، أملاً في الوصول إلى توافقات بشأنها بين السلطتين، وبما تتيحه الظروف المالية والاقتصادية من امكانات، لا شك أنها في أقل درجاتها تفاؤلاً.
لكن ما هو أكيد حتى الآن أنه لا يوجد جديد يذكر بشأن إعادة هيكلة الميزانية بشكل مقنع، كتقليص المصاريف المتكررة بأساليب مختلفة عن السابق، أو باتجاه وضع خطط لتقليص المديونية العامة المتضخمة للدولة، أو حتى بالنسبة لإطفاء العجز المزمن في الموازنة، حيث تستمر الحكومة في الحديث عن توجهات، ربما كان أبرزها سياسة التوازن المالي في الفترة التي سبقت شهر فبراير الماضي، أي قبل انتشار جائحة “كورونا”على المستوييين المحلي والعالمي، حينها كانت الآمال معقودة على النتائج المتوقعة من حزمة الدعم الخليجي لمملكة البحرين والتي كان مؤملاً لها، ولو على الورق، أن تنهي عجز الموازنة بحلول العام 2022 كما كان مرسوماً.
وبكل تأكيد تبقى تطلعات المواطنين لمشروع الميزانية مشروعة وقائمة، ويجب الإصغاء إليها جيداً، فالحكومة وبتعاونها المثمر مع السلطة التشريعية لا شك أنها استطاعت أن تلفت الأنظار إليها، لما قدّمته من معالجات وحزم دعم مالية، أنقذت وساعدت كثيراً في عدم إفلاس العديد من الشركات والمؤسسات وحافظت إلى حدٍ بعيد على امتصاص تداعيات الجائحة مالياً واقتصادياً، ولذلك لم نشهد خلال فترة أشهر الجائحة الكثير من التسريحات على مستوى العمالة الوطنية كما كان متوقعاً، وبقيت مسألة التسريحات في أضيق حدودها، لكن هذا لا يعفينا من القول إن لجوء السلطتين للاعتماد على صندوقي التعطل وصندوق حساب الأجيال قد أفقد الصندوقين جزءاً مهماً من رصيدهما التراكمي.
والأمر الآخر هو أن الحديث بدأ يتصاعد حيال مدى استمرار مشاريع الدعم والضمان الاجتماعي والمساعدات الاجتماعية التي تقدّمها الدولة على مدى سنوات وعقود، ومدى إمكانية الاستمرار فيها، خاصة إذا علمنا أن إيرادات الدولة المعتمدة أساساً على عوائد النفط، أصبحت متقلصة بدرجة كبيرة، حيث أن سعر برميل النفط في مشروع الميزانية الجديدة لن يتجاوز في أحسن الحالات ال45 دولار للبرميل مقارنة ب 60 دولارا في الميزانية السابقة.
ومما يجب التحسب إليه هو ما تقدّمه الحكومة من خطاب موجه ومترافق مع طرح مشروع الميزانية ذاتها، من أن الحكومة ستعمل على زيادة الإيرادات غير النفطية خلال الفترة القادمة!! وهو خطاب يشي بإشارات واضحة حول النية للتوجه أكثر للاعتماد على الضرائب وربما حتى زيادة بعض الرسوم، خاصة أن الحكومة تأمل في تحصيل إيرادات ضريبية تتجاوز ال 700 مليون دينار خلال العامين القادمين 2021- 2022 من ال 5% لضريبة القيمة المضافة وحدها، في حين لا يتحدث مشروع الميزانية عن أي زيادة حقيقية تذكر لزيادة عوائد شركات كبرى مثل “ممتلكات” أو غيرها من الشركات التي تساهم فيها الدولة، حيث اكتفت الميزانية فقط بإدراج عوائد لا تتعدى ال 10 مليون دينار لهذه الشركة القابضة العملاقة التي تضم تحت جناحيها أكثر من 74 شركة!!
من المهم التأكيد هنا أن الخطاب المعتمد حتى الآن من قبل الحكومة تجاه سياسات الدعم والإلتزام بالضمان الاجتماعي ومساعدات الأسر الفقيرة وعلاوة تحسين مستوى معيشة للمتقاعدين وإعانة المواد الغذائية، وبرنامج دعم علاوة الإسكان وغيرها من المساعدات لا زالت مستمرة كتوجهات، وهذا أمر محمود، لكن يبقى التحدي قائماً خاصة في حال استمرار تراجع أسعار النفط، وخطط الحكومة البديلة، وهل خطط إعادة الهيكلة على مستوى ضغط بنود الميزانية فقط هي الحل الوحيد، أم أن هناك خطط أكثر نجاعة يجب التفكير فيها، والتي من بينها التفكير الجدي بتطبيق ضريبة الدخل على الشركات الكبرى والبنوك كبديل ناجع عن التفكير في زيادة ضريبة نسبة القيمة المضافة مستقبلا مثلا؟، أو التفكير في ضريبة جديدة على التحويلات المالية للأجانب والمقيمين..الخ.
وعلى الجانب الآخر ربما يصحّ السؤال حول جدوى التضخم القائم في أعداد الوزارات والمؤسسات والهيئات الرسمية، وما يستتبعه ذلك من تضخم في الميزانيات الإدارية والمالية المرصودة لها، وكذلك التفكير سريعا بالإستغناء من أكثر من 7500 أجنبي لا زالوا يستنزفون عشرات الملايين سنوياً من ميزانيتنا دون مبررات موضوعية، حيث يمكن لنا أن نستبدلهم دون عناء بألآف من العاطلين وبأجور وإمتيازات أقل كثيراً مما يتحصلون عليه، وبالتالي حل جزء كبير من معضلة البطالة المتفشية في أوساط شبابنا وشاباتنا.
وبالمثل يحق لنا أن نتساءل عن توجهات الدولة من خلال مشروع الميزانية ذاته نحو نجاعة برامج مكافحة الفساد وحل قضية البطالة كجزء من السياسات المالية والاجتماعية والاقتصاية التي يجب ان تهتم بها الدولة كتوجه عام خلال الفترة القادمة.
اسئلة كثيرة يطرحها نقاشنا الجاد حول الميزانية العامة وتوجهات الدولة التنموية خلال الفترة القادمة، وهي منفتحة على فهمنا الأكيد لمشروع بأهمية مشروع الميزانية باعتباره راسماً لمعالم تنمية شاملة ومستدامة لفترة السنتين القادمتين على الأقل، وكمرحلة مهمة لتوجه الدولة خلال السنوات القادمة لحلحلة ملفات غاية في الأهمية كملفات المالية العامة للدولة، والحفاظ على الموارد، وتحقيق المزيد من التنمية، وتحسين جودة الخدمات من صحة وتعليم واسكان وكهرباء وبنية تحتية، وجميعها تحتاج منا للقول إننا ننتظر إعادة هيكلة حقيقية ليس فقط على مستوى الميزانية بل حتى بالنسبة للموارد وتنويع القاعدة الاقتصادية وتوجهات الدولة لبرامج الخصخصة ومعالجة المديونية العامة وحتى حول طبيعة الاستثمارات المستقبلية والمعالجات المنتظرة على أكثر من صعيد ضمن مشروعات الاصلاح الاقتصادي.