منْ يود الكتابة عن الفقيد إسحاق يعقوب الشيخ، المناضل والكاتب والصحفي والمفكر لن يحتاج إلى عناء ليجد في سيرته كتاباً مفتوحاً بإمكانه أن يغرف منه ما يشاء من تلك السيرة العطرة.
فإن أردت أن تكتب عنه مناضلاً ستجد في محطات نضاله الكثير من المواقف المشرفة، فمن المنافي إلى السجون تأخذك سنوات بعيدة، فمنذ الخمسينات من القرن الماضي وهو في معترك السياسة حاملاً راية التقدم منافحاً شرساً ومناضلاً صلباً من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، نصيراً للمرأة في مساواتها مع الرجل في الحقوق والواجبات، واقفاً كالطود في سبيل تحريرها من عسف المجتمع وظلامات الرجل.
دفع ثمناً باهظاً لانخراطه في النضال ومنذ تلك الفترة دفاعًا عن العمال، في الاعتقال والتعذيب جراء ذلك، فالحرية للإنسان وسعادة البشرية بالنسبة له كانت مقدسة لابد وأن تتحقق وإن طال الزمن بالنضال السلمي وبالصبر طويل الأمد، فكان مثالاً لهذا النهج الصبور فعمل عليه هو ورفاقه، فكل لبنة من أي تطور إيجابي في بلده السعودية أو البحرين كان في مقدمة صفوف داعميه وبقوة عارفاً ومقدراً مقدار ما ينتج عنه لاحقاً للحركة التقدمية من أهمية للبناء عليه والسير به للامام ولمزيدٍ من المطالبات التي تؤدي في نهاية المطاف لتحقيق ما يمكن تحقيقه من إنجازات على كل المستويات.
كانت جلّ كتاباته سواء أكان في جريدة “الأيام” البحرينية أو في غيرها من الصحف السعودية ك”عكاظ” و”الرياض” ومجلة “الطليعة الكويتية”، تؤكد على هذا النهج الإصلاحي التنويري الصبور من أجل تقدم مجتمعه ورفاهية شعبه بالطرق السلمية، ولذلك كان عدواً لدوداً للإرهاب والإرهابيين، وشرساً مع الطائفيين الظلاميين من كل الألوان، فلم تخلُ مقالة من مقالاته من صب جام غضبه على تلك الجحافل الإرهابية الطائفية الظلامية، وما تعيثه من فساد فكري وما تبثه من سموم في المجتمعات المبتلاة بها.
عاش حياته كلها مدافعاً مبدئياً عن أفكاره اليسارية المتجذرة في وجدانه، مقتنعاً قناعة راسخه بتلك الأفكار، مدافعاً عنها بكل قوة وبإيمان الواثق من انتصار قضيته حتى لو طال الزمن.
من يعاشر أبا سامر سيجد فيه طيبة المعشر وحسن الخلق، مضياف إلى أبعد الحدود، يده ممدودة بالمحبة لكل من يحطّ في منزله، يجاهر بقناعاته دون خوف أو وجل، لا يساوم على أفكاره ولا يجامل أحداً فيها وبقى محتفظاً بتلك الخصال حتى آخر يوم في حياته، يكنّ له البعيد قبل القريب كل المودة والتقدير، وبذلك كان له الكثير من المعارف والاصدقاء في مختلف البلدان، فلا عجب أن تظل رفيقة دربه أم سامر ملازمة للهاتف من كثرة الإتصالات الواردة اليها معزية في رحيله، فكان معروفاً ومحط إعجاب لدى الكثيرين.
ظل إسحاق يعقوب الشيخ جسوراً في طرح أمور إشكالية كبرى كالدين والسياسة والحريّة، يتناول تلك التابوهات دون رهبة أو أقنعة، تلك الخطوط الحمر التي يرهبها الكتاب في بلداننا حين يقاربونها، غير عابئ بمنتقديه أو بما تجر عليه من عداوات، فلم يتخف بالتقية الرمزية أو الاسلوبية حين يقارب تلك الموضوعات، بل كان واضحاً كل الوضوح في طرحه واضعاً نصب عينيه ما قد يثيره منتقديه من ردود.
الرسالة الفلسفية لأبي سامرواضحة وضوح الشمس من خلال كتاباته، تجد الفكرة بين يديك وهي أنه رغم كل الصعوبات التي تواجهك عليك بالتحمل والصبر لتصل إلى مبتغاك، فالنفس الطويل شعار سار عليه واتخذه بوصلة لحياته فلم يتعب أو يتقهقر، بل أنجز مشاريعه في الكتابة على كل الصعد فكراً وثقافة وسياسة دون كلل أو ملل، فكان له ما أراد فأصدر عدداً من الكتب في الفكر والراوية والسيرة الذاتية وأدب السجون.
اللغة الأدبية الراقية إسلوب أجاده إسحاق الشيخ باقتدار ناتج عن ثقافة عالية وقراءآت غزيرة تشعر بقراءتك له بأنك في حضرة شخص متمكن ضليع ومتمرس فيما يكتب، يضيف إليك الجديد بلغة عربية فصيحة، ففي كتاباته لا يمر على القشور أو السفاسف، بل يخترق أعماق الموضوعات حتى النخاع، يُفصل ويشرح ويستفيض فيما يمكن أن يمرّ عليه كاتب آخر مرور العابرين، فيبرز ريشته التصويرية الفائقة حين يصف حادثة أو شخصاً، ولا شي إلا ويصوره تصويراً دقيقاً بعين يقظة تشبه عين الرسّام، بخبرة عاشق غارق في التفاصيل.
كان أبو سامر شخصاً ممتلئا بالحيوية والنشاط لا يهدأ أبداً، فجلّ وقته يقضيه في القراءة والكتابة وأعمال المنزل، تراه دائماً مهموماً بقضايا وطنه وشعبه، ومع كل ذلك كانت له أوقاته مع عائلته وأصدقائه في أمسيات جميله لا تنسى سواء كان ذلك في السعودية أو في البحرين.
إن الحياة الجادة مرهونة للأمور الجادة، فكانت حياته جداً واجتهاداً وعملاً مضنياً، لا يهدأ ولا يستكين رغم عمره المديد، فالعمل لديه لاينتهي عند كتابة مقال بل يتعداه إلى المطالعة والبحث والتدقيق ليبدأ مشوار الكتابة التي لا تنتهي أبداً، فالقلم بالنسبة له معين لا ينضب ملازم له دوماً وأبداً، ولم يدخر وسعاً في العمل الشاق حتى ينجز كتاباً، فهو رجل يجعل الأشياء تتحقق.
نافذ البصيرة ثاقب الفكر قارئ للتاريخ محب للشعر والادب، بارع في التقاط ما هو مضئ ونافع في التراث الإسلامي، يتقن بثراء ودائماً بدرجة عالية من الامتلاء والفصاحة وجلاء المعنى ذلك التاريخ وبرؤية نقدية يستنبط منه المعاني والأفكار الصالحة لزماننا.
ستبقى يا أبا سامر في الذاكرة الجمعية الوطنية وطني الهوى أممي التفكي، شخصية موسوعية موسومة بالزهو التقدمي، شخصية مألوفة وقارة في الأذهان داعية لا يرضخ للثوابت البالية من موروثات الماضي، فكل إنسان في الحياة يصنع النهاية على شكل مختلف فقد كان لحياته نهاية مجيدة.
وفي أواخر أيامه، وعلى الرغم من صلابته وقوة إرادته التي يتمتع بهما، ومقته لبكاء الضعف إلا أن المرض قد تمكّن منه، وأقعده كلياً بعد أن سطى على جسده، وكان على أتم الدراية بكونه قد أصبح غير قادر على التعافي والشفاء من هذا المرض الفتاك فأسلم الروح مساء الاثنين الحزين الرابع عشر من ديسمبر.
فلك المجد والخلود يا أبا سامر، نم قرير العين في وطنك الثاني البحرين الذي أحببته وأحبك، بين أهلك ومحبيك فقد تركت كتاباتك أثراً لن يمحى أبد الدهر وصورتك باقية لن تغيب.