تضجُّ نشرات الأخبار والتقارير حين القبض على مجموعة متطرفة، أو خلية إرهابية تدينها المجتمعات قبل الدول، على صور وخلفيات أبطالها الذين ورَّطوا أنفسهم في مأزق اللا عودة غالباً، إذ تكون أقدامهم قد انزلقت إلى إزهاق أرواح آخرين، ذلك حين يكون العنف منهجاً آيديولوجياً متبنى طول الوقت لكل من لا يتفق مع فكر هذه الجماعة/ الاتجاه، في ظل تراجع قوى معتدلة أخرى تُخفق في الاستحواذ على انتباه الجمع الأكبر – والأضعف أيضاً – من الجماهير. وتفتح هذه الموضوعات سؤالاً ملحاً لم تُحسم إجابته بعد: لِمَ ينضم من يعدُّون أسوياء لهذه المجموعات؟
في حركات التشدد، تستخدم مصطلحات الأصولية الإسلامية مرادفة للتطرف العنيف. ورغم أنها تأتي على ذكر مفردات بذاتها؛ مثل الجهاد/ الإسلاموية، المرتبطة بتبعية الفرد لقرارات سياسية تحت سيادة الدين، إلا أن التشدد لا يقع ضمن طائل الديانة الإسلامية فحسب، بل يشمل التطرف بأشكاله في كل الديانات، وأيضاً في الاتجاهات الفكرية، وكلها تميل لخلق الصراعات من أجل طريقين: خدعة أو تحقيق مال ووجاهة سلطة، أو هكذا كان الظن، حتى وقت ظهور الأخبار والتقارير التي توضح أن كثيراً منهم قادمون من بيئة وظروف مكتفية. فمن يتصور أن مغني راب – على سبيل المثال – له آلاف المتابعين على قنواته، مكتفٍ مادياً، ومتحقق، يتنازل عن كل هذا لينظم لجهة متشددة، لا يختلف عاقلان أنه تنظيم مجرم ولا إنساني؟
هكذا طالعتنا النماذج التي ظهرت لما استيقظ العالم ذات لحظة في العام 2013على وحش منظم ومسلح نما على مراحل بمرأى من الجميع، صار اسمه “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، التابع للجماعات السلفية الجهادية، واستولى وقتها على جميع وسائل الإعلام، ووسائل التواصل المتاحة، عبر تشغيل ذاتي، أو عبر شغله للرأي العام في كل العالم، يبث فيديوهات إعدام الخصوم عبر تقطيع الرؤوس بوحشية، إلا عبر الدراما التي تحذر من هذه المشاهد المؤذية عبر التصنيف الذي لا يسمح لغير الراشدين بمشاهدته. كان الوضع خارج السيطرة بكثير، واستغرق وقتاً ليس بقصير – قياساً بالخسارات – حتى تمّ تفتيته لإيقاف الخراب الذي خلَّفه.
اشتغل الكاتب التونسي عبدالحليم المسعودي على النموذج المعاصر “داعش”، المستمد من الأحرف الأولى للتنظيم، في نص مسرحي مثقل –وما أجمله من ثقل منير!- يعج بالدلالات التي ترشد قارئه إلى البحث والقراءة في مصادر أخرى، بحثاً عن المعاني المتضمنة في متن النص والإحالات معاً. وكان المكان هو سيد هذه الدلالات في “الروهة”، فالحدث كله يدور في هوة مظلمة في الصحراء/ جب/ قعر/ مستنقع، أو مقبرة جماعية – صوَّرها للقارئ وتصميم الغلاف للشاعر محمد النبهان – تقبع تحتها جثث الجرحى والقتلى من ضحايا الدواعش، حتى لو كانوا من أفرادها. فشخصيات النص المسرحي اجتمعت من غير سابق معرفة، وأتت إلى هذا المكان بطرق مختلفة، يستعرضها المؤلف عبر الفصول التي منحها عناوين دالة من غير تفاصيل: بدور الموصلية/ سبحة الكهرمان/ الأرنب الأبيض/ كبول طرزة/ تركية/ طوروس وزاغروس/ أحلام القنفذ/ لحاظ.
لم يتوانَ المؤلف عن إشباع جمله بما يتناسب مع الانحطاط المكاني، عبر إقران كل الأفعال والأسماء بالفضلات الآدمية باسمها الصريح، والتي باتت ضمن الكلمات المشاعة شفاهية وكتابة للتعبير عن سوء الأوضاع. لكن الحوار الأولي غير المنسجم بين الشاب “أمير يونس” وقصير القامة “كجة مجة”، في أول “الروهة”، يكشف عن مستوى منحدر من الحديث المتبادل بين أي شخصين (1)، وسط أصوات ارتطام الجثث التي تنزل من الأعلى بين الحين والآخر، فيقوم كجة بتفتيشها لعل فيها ما يفيد في حياتهم التي يبدو أنهم اعتادوها في ذلك المكان. وكلما وفدت شخصية جديدة على الفصول، اتسعت الرؤية وضاقت في آن واحد، لأن كل ما يدور يدعو للتساؤل: من هم؟ وأين هم؟ وإلى متى سيظلون في مكانهم حدثهم، لا يتطور إلا بشكل أفقي بينهم وبين بعضهم، لا شيء يدفع للأمام، ولا أحد يفكر جدياً وعملياً في الخروج، ولا أمل أصلاً إلا في البشارات الملغزة التي يسري بها عبدالحي إلى أحدهم في حديث جانبي!
واختار المسعودي أن يلبس شخصية عبدالحي الترميذي شخصية تتداخل ضمن أطر السرد العجائبي لمخلوق لا يبدو أنه إنسان مثل بقية الشخصيات الأخرى التي تتكلم بلغة يومية مألوفة، وظيفته في النص: ميزان الحدث، الحكمة، والروية، والهدوء، وأيضاً البشارات نحو العبور، واستحضره المؤلف شيخاً في هيئة ملائكية، لا يكاد ثوبه يمس أديم الأرض، وهو يخطو ويظهر كوميض مطمئن للنفوس، وعارض للخبايا، ومستشرف لما هو آتٍ. ومن المهم الإشارة إلى ذكاء المسعودي في اختيار شيخ صابئي لنص يتحدث عن تطرف ديني إسلامي، استعمل قشور الدين لتبرير العنف والدموية الداعشية، وحتى في المسائل الأخرى التي تتطلب حياداً في الرأي دون إدانة أي طرف؛ مثل ذكر نجاسة الكلب وتحريم تربيته، ويدين الصائبة الذين يتبعون أنبياء الله آدم وإدريس ونوح وسام بن نوح، والصائبة المندائية هي الطائفة الوحيدة الباقية إلى اليوم.
يتلو “عبدالحي”، برمزية اسمه التي تعني “الحي الذي لا يموت”، من كتابهم المقدس “الكنزربا أو كنزاربا –ويعني الكنز العظيم-(2) ما يتناسب مع الموقف والشخصية، وأيضاً ما يتناسب وفخامة اللغة في الكتب المقدسة، وهذا ينعكس على حديثه العادي، حيث يعتبر في مستوى مختلف ومميز من الآخرين الذين ما فتئوا يستخدمون ألفاظاً دون المستوى في حواراتهم لبعضهم، رغم أنه انزلق مثلهم في “القاع”، وهذا ما يستلهمه القارئ عبر حواره مع أمير، لما استنكر وجوده بينهم وهو الرجل العارف، فكانت الإجابة: للمعرفة مزالق حين تكون الرغبة فيها منقوعة بشبق التسلط والتملك! (3) وهذا يعني أن لا أحد مستثنى!
أمير، الموسيقي المرهف، وباحث الدكتوراه في الموسيقى، والمتورط في حيرته، والشاعر بذنبين مصدرهما التردد أيضاً: لم ينقذ توأمه حين غرق أمامه جبنًا وخوفاً، وأيضاً لم ينقذ “لحاظ”، حبيبته، من زواج مدمر أجبرت عليه، فعاش بعدها حبيس الإرادة، مكبل الشعور، فاقداً لإنسانيته، حتى يجمع عبدالحي بينه وبين شاه بانو، المحاربة الكردية المستعدة للمواجهة في أي وقت، والتي قاست في حياتها ما قاسته لتكون هنا جريحة أو جثة، تجتمع مع أمير في طقس يشبه التعميد في مصير يجمعهما معاً دون الباقين. كجة مجة، المتخفي تحت قناع مهرج بشكله ولفظه، بينما تعطي حواراته مع الآخرين انطباعاً أن معلوماته ليست سطحية كما يحاول أن يظهر ذلك عن نفسه. شمس الدين العياري، الذي فقد نصف عقله وكل ثباته الذهني، لا قيمة للحياة عنده بعدما رأى كل الأقسى في حياته هو، سيكون من المنطقي أن تكون شخصية شمس الوحشية البوهيمية إحدى أفراد داعش.
كل الشخصيات في “الروهة” لا تتطور بالشكل المنشود لأي حدث يترقب تراكمه، لأن الهدف من وجودها -من الأساس- هو سرد تاريخها، وكيف وصلت إلى “القاع” بالمعنى الفعلي والدلالي. فهذه التونسية “صالحة التومي”، الطالبة الجامعية، التي عاشت مراهقتها وبداية شبابها في السكن الطلابي، تدخن السجائر، وتعبُّ البيرة، لتنتقل عبر غواية ابنة عمها إلى مجاهدة في الدولة الإسلامية، هروباً من جو العائلة الخانق، ولتلتحق بحبيب عرفته عبر الإنترنت! ثم الرغبة في “مكان بكر يمكن البدء فيه من جديد في كل شيء، وتغيير كل شيء؛ الاسم، والصفة، والوظيفة، والدنيا، والآخرة” (4). أغرتها الحياة الجديدة، رغم جهلها بالتفاصيل وبالثمن الذي دفعته تالياً، في “ماخور” تتعرض فيه للبشاعات الجنسية التي ظهرت بشهادات حية من إناث استطعن أن ينفذن بجلدهن من استهدافهن لحاجات غرائزية تحت جناح الدين والجهاد.
ومن المفارقة الكبيرة، أن يكون المؤلف عبدالحليم المسعودي كاتباً وباحثاً مهتماً بجماليات الصورة والمسرح والفنون الفرجوية، وأستاذاً جامعياً في ذات التخصص، ويمنح قارئه نفحة مقززة من القبح المقرر، لا شك أنها متعمدة لإيصال الصورة، رغم أن النص مكتوب بلغة فخمة في معانيها، وسلسلة في فهمها، ونص متعدد التأويل لا يمكن أن يأخذ خطاً واحداً من الفهم، لأن لكل شخصية أو حدث امتداداً وتاريخاً وإحالة، حتى لو كانت كلمة عابرة ضمن سياق الجملة، لكن المعنى العام للنص هو أن يعطي بعض إجابة لسؤال: كيف يحشر هذا القطيع لينتمي إلى داعش أو مثيلاتها، رغم لقائهم جميعاً بصدفة غير مرتبة، عن أن التطرف ليس خياراً يلجأ له سويُّ العقل، يقظ الضمير، ومن أسبابه الميل إلى التمسك بالكتب التراثية المكتوبة من أشخاص لا علم لهم إلا في الوقت الذي عاشوه، وحكمت أوامرهم البشر المنصاعين من غير التفكير أو إعادة النظر؟! وحتى إن كان الأمر مقبولاً حينها، فمن المنطق ألا يكون مقبولاً في عصر آخر، ومقاييس أخرى استحدثت بفعل الزمن.
وغالب الظن أنه لا يمكن حسم الأسباب التي تؤدي بصاحبها إلى التطرف، وإلى أن يكون فاعلاً في جهة متشددة، بعد أن كان ينعم بحياة عادية، بينما يذهب الظن بنا دائماً إلى أن المجاهدين المنضمّين من دول مختلفة غير سوريا والعراق -باعتبار سيطرة التنظيم هناك-، يكونون منقادين لأسباب مختلفة تتعلق بهم أو بمجتمعاتهم. وبعد دهشة العالم لانضمام أطباء ومهندسين للتنظيمات المتشددة، واعتبار المحللين أن طبيعة الدراسة العملية الجافة الخالية من أي خيال أو إبداع، تظهر التقارير أن الموضوع اتسع إلى رقعة ممن يصنفون في قائمة الفنانين (5)، بعضهم من أصول عربية، وآخرون من بلدان أجنبية، نفس اليد التي كتبت شعراً ورواية، أو عزفت على آلة موسيقية، هي نفسها التي تورطت باستخدام سلاح لسفك دماء آخرين لمجرد اختلاف العقيدة. تلك “الروهة”، أنثى الظلمات، التي وقع فيها المغني اللبناني صاحب الصوت الرخيم “فضل شاكر”، وورط نفسه باثنتين وعشرين سنة من عمره في السجن والأشغال الشاقة، لأنه لم يقتلها، ولا حاول تجنبها بالمعرفة، حسب نص المسعودي.
الهوامش
1. مسرحية الروهة، عبدالحليم المسعودي، مسكيلياني للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2019م، ص 14،15،16.
2. نفس المصدر السابق، ص 100، ويمكن الإطلاع على المزيد في النسخة الإلكترونية للكتاب: http://www.mandaeannetwork.com/GinzaRba/index.html
3. الروهة، ص 113
4. الروهة، ص 79
5. https://youtu.be/Qxx5Qeie2iU