تقول نادين تحسين بيك في مشهد من مسلسل «مسافة أمان» بنبرة سعيدة :”ايييييه الحبّ بينوّر وش البني آدم”.. لربما نشعر بأننا نبدو أكثر جمالاً في حضرة من نحبّ.. تبدو لنا أعيننا تلمع من فرط الشعوربالدفء وابتساماتنا صافية -تحمل أقل ما يمكن من شوائب الحزن-.. أخال أن هذا الإحساس يتأتى من الالتزام والمسؤولية -على نحوٍ لا تكاد تفرق كونه فرضاً أو خياراً-. الحبّ ببساطة قد يلمس كل قلب نعرفه، حتى القلوب التي نظنها باردة قد يحرقها الحنين.. مساورة الحبّ قد تتوهج في ذاتك بشعور صغير يزرعه قلبك من ثوانٍ لدهشة عابرة أو انبهار خاطف.. لكن التزامك بالواجب تجاه من تحب.. خوفك عليه.. شعورك بأنك يجب أن تكون جزءً من سلامه وضحكاته وفرحه.. شوقك له.. بلسمك الذي يداريه.. كل هذا يبلوّر مفهوم الجمال الذي يأخذنا إليه الحبّ.. الجمال المنبعث من حيوية الروح.
قد يكون الحبّ تماس روحي مشترك مع ذات أخرى؛ يهب المحبّ توليفة وارفة من الأمان المفتقد في الحياة السريعة.. تهدهد توتره برفق كأنما هو الشعور الوحيد الثابت والمطلق.. على نحو أشبه بنص الشاعر قاسم حداد «قل هو الحبّ ولا تصغي لغير القلب».. أقول ربما فيأتي «زيجمونت باومان» في كتابه «الحبّ السائل» ليدحض هذا النوع من التفكير؛ إذ لا يعد الحبّ مبعثاً للأمان بل جزءً من اللهاث في ماراثون الحياة بنسبية تفاصيلها وبسرعة أحداثها. حيث علاقات عابرة لا تؤرقها المسؤولية.. -حالمة بلا روابط والتزامات تنتهي بكبسة زر! فإن لم يحقق لك المنتج الرضا، يمكنك استعادة نقودك كاملة-.. نعم هكذا يقول باومان ببساطة روبوت آليي يمكنك استعادة قلبك أملساً لم تخدشه ندوب التجربة. ففي زخم العلاقات الافتراضية يمكنك وضع نبضاتك بأمان على منضدة العاطفة بحرية وسهولة ويمكنك تناوله بالخفة ذاتها! يمكنك تفحص خافقك بمغامرة قصيرة تتململ من ثقل الأعباء ويمكن تحديدها بساعات قصيرة!
بحسب وصف باومان، الأمر يبدو لي أشبه كوب شوكولاته ساخنة تبتاعه يومياً في المقهى نفسه وحين تألف طعمه تقوم بتغيير المشروب والمكان من دون أن تستدير للخلف. ويبرر باومان هذا التحوّل الدرامايتيكي بأن مجتمعنا الحداثي يخضع تحت مطرقة الأنماط الاستهلاكية والمشاعر المعلبة، إذ يتم التعامل مع الآخر كأنما هو سلعة استهلاكية لها صلاحية انتهاء تقاس بمقدار الشغف مثلاً، فتتوارى خلف الرتابة والملل وبمجرد ظهور سلعة أخرى تستحوذ على انتباهنا. وهنا ينتهي الحبّ الأفلاطوني أو المبني على أعمدة اليوتوبيا.. والقصص الملحمية على غرار «روميو وجولييت» تغدو نكتة سمجة حيث لا ديمومة ولا تضحيات ولا وعود تنطوي إلى الأبد. أسئلة كثيرة تخوضها رؤية باومان للحبّ، فهل يركن الإنسان للتعاسة عندما لا يحقق طبيعته الاجتماعية؟ هل تصبح حميمية علاقته بالآخر خافتة حد العدمية، ليغدو الآخر في هذا السياق مجرد وسيلة لتحقيق الاعتبار الذاتي؟
لقد نجح فيلم her لمخرجه سبايك جونز في بسط التصور الاستشرافي لواقع أصبحت فيه العلاقات الإنسانية مهووسة بالجانب الخدماتي على حساب وجهها البشري، في ظل مجتمع رأسمالي يتبنى شعار «كل شيء للبيع والشراء». إذْ يعرض الفيلم في أمثلة متشائمة لواقع مستقبل يعجز فيه الإنسان عن لمس عاطفته. بطل الفيلم «ثيودور» -لعب دوره خواكين فونيكس- يعمل كمحرر رسائل رومانسية لصالح الأزواج الذين ينالهم الفراق، مما يجعله وسيطاً بين الناس، يتكلم باسمهم ويكتب ما يعبر ظاهريا عنهم. ثيودور الذي أخفق في حياته الزوجية وأشرف على توقيع أوراق طلاقه يعيش علاقة حب مع «سامانثا» الصوت الآلي لهاتفه الذكي.. وتجسد هذه القصة فكرة السعي إلى إقامة البديل الإلكتروني للآخر، فإذا عجز الإنسان عن التعايش مع شريكه بسبب حدة التوتر التي لا تتقبل التنازلات، فالحل يبرق سريعاً عبر صناعة شريك مرسوماً بدقة! أي أننا مجبرون بحكم قانون الطبيعة على البحث عن شريك يفهمنا، يشاركنا اهتماماتنا، يساندنا.. ويمدنا بجرعات عاطفية كمطلب حيوي أساسي.
طوّر ثيودور علاقة كان مصيرها الفشل منذ البداية، فقد بحث عن ضالته في شريك ليس من نفس طينة البشر، فقد تخلت عنه سامانثا في النهاية، و هي إيحاء رمزي يعكس قيادة الإنسان نحو الوهم، و كأنما يخبره بضباية بأن الذات قد تستعين بجلد نفسها بحثاً عن السعادة من خلال تكنولوجيا تشبع كل احتياجاتنا بينما لا تكفي سرعتها لعناق قصير! لقد أدرك ثيودور في الختام أنه لم يفهم طبيعته تشكيله الجوانيّ، فهو كائن يبحث عن الآخر الذي يرضيه فحسب، بينما لا يبالي بأهمية رضا الآخر بما يحقق علاقة التكافؤ التي تكفي لانتشالنا من الوحدة. سبايك جونز في هذا الفيلم -الذي زاوج بين الإخراج و كتابة السيناريو في هذا الشريط- نموذج حياة مخيف. حيث صور واقعاً تغيب فيه مشاهد الحياة التي تحفل بالمشاركة الروحية.
يستلهم الفيلم فكرة أن التكنولوجيا تسرقنا من مجتمع حقيقي لآخر وهمي، تغتال أرواحنا الهسة لمجرّد إيهامنا بفكرة «شريك على المقاس» مما يدعونا لهدم علاقاتنا مع الآخرين. أرى أن هذا الطرح الفلسفي في الفيلم قد ترجم بنجاح بالغ على المستوى الإخراجي، إذُ نجح سبايك جونز في عرض فكرة الفيلم بواسطة لعبة المفارقات؛ حيث ألبس المخرج شخصياته أزياء كلاسيكية تنتمي إلى زمن الستينات بغية تصوير مفارقة بصرية تقحم الماضي في حياة المستقبل، لتبدو الأزياء المعتمدة متوهجة بالألوان و تحيل إلى الدفء الذي يميز الماضي حيث كنا أكثر حفاظاً على علاقاتنا إزاء برود رمادي باهت وخواء مريع في عالمنا الداخلي من الحياة المستقبلية التي يعرضها الفيلم فيُبدي المرء عكس ما يبطن، ليسوّق للسعادة التي توفرها التكنولوجيا الحديثة بينما في الواقع يغرق في الوحشة!