تحكي إحدى المواطنات أن عاملاً من عمال جر العربات في أحد المتاجر أثار شفقتها كالعادة فقامت بإعطائه إكرامية 300 فلس، لكنه تذمر من المبلغ الزهيد وذلك لأنه اعتاد على ان يُعطى أكثر من هذا. استثارتني ردود الفعل على وسائل التواصل، حيث يقول أحدهم: “من يريد ان يتبرع يدفع إلى الجمعيات لا تعوِّدوا الهُنودَ عليكم”. ويقول آخر: “فقط ارفضوا المساعدة، وإذا أصر على توصيل العربة فاعتبروها جزءاً من وظيفته ولا تدفعوا له فإنكم لم تطلبوا الخدمة، لا تسمحوا باستغلالكم إلا إذا أردتم الأجر فهذا أمر آخر!” ولم يكن هناك إلا القليل من الردود الإيجابية والمتعاطفة مع هذه الحالة الإنسانية.
يقول الإمام علي بن ابي طالب: “ما جاع فقير إلا بما مًتّع به غني”. إذا لم يقدر الإنسان على إصلاح الفساد الذي يعمّ العالم، وفي حين لم يقدر على أن يجابه الطفيليات الكبيرة التي تسرق بالملايين وتتسبب في تجويع الجماهير وسحقهم، فإنه يلقي كل سخطه ورفضه على الجماهير المسحوقة، على إنسان لم يكن ذنبه إلا أنه ولد في دولة فقيرة، ووضعته الأقدار بين يديك أنت الذي لم تختر أن تولد في دولة نفطية مغتربا عن أهله وناسه ليعمل بثمن بخس، يرسل ما استطاع إلى بلده ويُبقي ما يعادل كفاف يومه ثم تحاسبه على إكرامية 500 فلس أو دينار لا يسمنك ولا يغنيك من جوع ولكنه يعني له الكثير!
هل من العدل أنه إذا كان هناك عامل لئيم لا يشكر على إكرامية زهيدة، أن نأمر الناس بعدم مساعدة هذه الفئة الفقيرة كلها ونحرض الناس على قبض اليد عن إنسان أشفق عليه؟ إن المسألة ليست مسألة مثوبة وأجر أو أن ننتظر عائداً دنيوياً أو أخروياً، اخرج من حظوظ نفسك لأن المسألة هي مسألة إحساس بالآخر والشعور به، وإذا ما فقد الإنسان الشعور لن تقوده الإغراءات والمخاوف إلى السلوك الحسن.
ماذا يبقى من الإنسان حين لا يكون قادرا على التعاطف وتقمص حالة الآخر والإحساس به؟!.. لا شيء أبداً. فقبل أن ننطق بأي كلمة علينا أن نضع أنفسنا أمام الحالة الإنسانية ونعيشها فربما في قادم الأيام نكون نحن أو أبناءنا مكان هؤلاء وسيتمنون أن تكون هناك الكثير من النفوس الرحيمة التي ترحمهم وتساعدهم بمبلغ وجبة يوم واحد في غربتهم وفقرهم. فمن يعطي إنما يعطي لسماحة نفسه وكرمه ورحمته وقدرته على العطف بالآخرين وهذه من أكبر النعم على الإنسان، لكن من يأمر الناس بقبض اليد عن إنسان محتاج لموقف بدر من أحد المحتاجين فإنما يأمره بذلك لضيق نفسه وانقباضها عن الخلق.
لا يقتصر الأمر على العمالة الأجنبية بل عموم الفقراء، فآلية الحكم العام انطلاقا من موقف خاص هي آلية منطقية تستخدم كثيرا للإقناع، لكنها آلية خاطئة وخطيرة، فحين تحاول مساعدة فقير في الشارع ستجد من يقول لك، هؤلاء ليسوا محتاجين وهم أغنى مني ومنك، بل لا يوجد فقير في دولنا وإن الشحاذة مهنة اعتادها بعض الناس. تخيلوا لو أننا جميعا نفكر بهذه الصورة! وإذا ما كان هناك فئة قليلة تتخذ من الشحاذة مهنة… والله أعلم، هل هذا يعني ان نقبض اليد عن مساعدة انسان راجع كرامته ألف مرة ووقف بينها وبين ضيق حاله لينزل يطلب شيئا من الناس؟
في محاورة بين هادي العلوي وسعاد جروس وُضعت كجزء من كتاب بعنوان “حوار الحاضر والمستقبل” كانت سعاد تتذمر من الشحاذين وتصفهم بأنهم متطفلين يعيشون على تعب الناس. فأجابها هادي بأن الشحاذ ليس متطفلاً بل فقير عاجز عن العمل، أو عاطل لم يحصل على عمل، وهو لم يلجأ إلى الشحاذة تطوعاً وهواية، فالإنسان لا يفقد كرامته بسهولة لولا أنه يخير بينها أو الموت جوعاً. إنما المتطفل هو الحاكم الفاسد والتاجر والمثقف البرجوازي، أولئك الذين يأكلون قوت الناس ويدفعونهم نحو الشحاذة”.
من يعمل في وظيفة متدنية بالنسبة إليك كعامل جر العربة، ماسح الأحذية، والفراش الذي يعمل في المكتب هو فقير في وطنه ولم يحصل على عمل، فجاء ليجد فرصته في أرض الله الواسعة بدل أن يشحذ هناك. نعم أعينوهم قدر الإمكان لأن: النّاسَ للنّاسِ من بدوٍ وحاضرةٍ بعض لبعض وإن لم يشعروا خدمُ.