الموت و”ما بعد” يحاصران العالم ( 3 – 3)
عبدالله السعداوي
طرح دريدا مفاهيم مثل الاختلاف والتأجيل والإرجاء بدلاً من المفاهيم البنيوية المتعلقة بالثبات والاستقرار والتكرار اللانهائي للنمط، مؤكداً على وجود لا – نهائية، ولا- تحديد في موروث المعنى، إن المعنى اللغوي هو ظاهرة غير مستقرة في جميع الأوقات والسياقات ويظهر ذلك من خلال دراسة الخطابات التي توظف اللعب اللغوي للكلمات والتورية. هكذا تكتسب اللغة كما يقول دريدا طاقات لانهائية لتوليد المعاني الجديدة للإبداع، ويتلاشى المعنى المحدد والمستقر في اللحظة التي يتمّ فيها انتاج جديد.
ينتقد دريدا الفلسفة الغربية باعتقادها بامكانية حضور المعنى كاملاً ونهائياً لعقل المتكلم، وأن هذا المعنى ينتقل ليستقر فيه الخطاب وينتقل كما هو إلى المتلقي، وهذا ما يدعوه ب (ميتافيزيقيا الحضور)، ويذهب إلى انكار وجود نوع من الإزاحة في المعنى الذي يفترض ان يكون حاضراً دائماً كما هو في ذهن المتكلم ،ومن ثم ينتقل إلى الخطاب كما هو أيضاً دون تغيير أو إزاحة – محض وهم ٍنميل إلى الأخذ به بتأثير الثقافة الإنسانية.
ذلك أن الاختلاف والتأخير دائماً ما يقع للمعنى ويعطل الحضور الكلي، وبذلك أصبح التأكيد على الاختلاف والتأجيل والمعنى غير القابل للتحديد والاكتمال داخل النظام من المبادئ الأساسية. وكان نيتشه يرى بأن أي ارتباط دنيوي – بجنس أو عرق أو أثنية أو تاريخ – ليس إلا سراباً أو بناءاً يراد الاعتقاد به بعد اقامته على نوع من أنواع الايمان المصمم لجعلنا معلقين عالياً بحبل المعنى الواهي فوق هوة الحقيقة غير المريحة، وقد كان مقتنعاً بأن هذه الأبنية كلها محكومة في أخر المطاف بالتنازع فيما بينها، ومحكومة بأن تسبب العنف أكثر من ما تحله.
وبذلك فتح الباب لفلسفة مابعد الحداثة التي أظهرت الفيلسوف دريدا التفكيكي الذي اعتمد التشكيك الجذري في دلالات النصوص مقوضاً تماماً فكرة استقرار المعنى. نظرة دقيقة للتفكيك توضح ان أي بنية سياسية، اقتصادية وغيرها تسن ويحافظ عليها بأفعال استبعادية بمعنى أنه أثناء خلق شيء ما ستستبعد لامحالة مالا يتفق معه. تصبح هذه البنى الاستثنائية قمعية. كما أن القمع يصبح أحد النتائج المترتبة عليه.
يصرّ دريدا على أن ما يتم طمسه وقمعه يعود مرة أخرى لزعزعة البناء مهما بدأ البناء في مأمن، ومن هنا يصدر الفيلسوف ريتشارد رورتي متأثراً بمقولات دريدا التفكيكية في طرح تصوره للنشاط التأويلي الذي يمارسه المتلقي على النصوص، فعلى العكس من مقولات الفيلسوف السيميائي أمبرتو ايكو المتعلقة بوجود ضوابط جمالية وتأويلية يفرضها النص على المؤول، يأخذ رورتي بالفلسفة التفكيكية والتي تقوم بتفكيك المعنى وتقول للمعنى المرجع. ويطل علينا المفكر (ايشلمان) ليقول لنا ان السنوات الخمس عشرة الأخيرة شهد نشوء حالة في العلوم الانسانية تسمى (مابعد النظرية) ومن هنا ينطلق ليعلن ايشلمان (بموت مابعد الحداثة) ويبدأ بصياغة مصطلح (مابعد مابعد الحداثة) فكل النظريات مابعد البنيوية التي ظهرت في مرحلة مابعد الاستعمار لم تستطع أن تواكب الحداثة المتغيرة والتي يجري الاشارة لها بلفظ العولمة. في كتاب ايشلمان: (نهاية مابعد الحداثة)
هناك جملة تغيرات طرأت على الأدب والعمارة والسينما والفن والسياسة توضح مما لا يدع مجالاً للشك أننا غادرنا حقبة مابعد الحداثة، ويطلق على هذا العصر الجديد عصر (الأدائية) حيث تأخذ نماذج الفلسفة والفن والسينما والأدب منحنى سمو وتعالي يتجاوز الواقع المادي ويعود بالفلسفة نحو الواحدية بعيداً عن التضخم والتشظي الكامن في نموذج مابعد الحداثة.
وفي نفس الطريق يمشي استاذ الأدب آلان كيربي في مقاله المهم (مابعد موت مابعد الحداثة)، قائلاً: (إن مابعد الحداثة ماتت وتم دفنها، وأتى في مكانها نموذج جديد للسلطة وللمعرفة تشكل تحت ضغط تكنولوجيا جديدة وقوى اجتماعية معاصرة)
يتحدث في مقاله المثير عن نهاية مابعد الحداثة وظهور تطبيقات أدبية وفنية وسياسية تأسست في واقع مغاير وعلى نماذج فكرية مختلفة، ويطالب القراء أن يلقوا نظرة على سوق المنتجات الثقافية، أين الانتاج الثقافي مابعد الحداثي؟ هل لا زالت أي من نظريات دريدا، فوكو، جان بودريار تشغل الساحة الفكرية الآن؟ كل هذه النظريات توقفت ولا تشغل إلا الأكاديميين، كذلك تخلى منتجوا المواد الثقافية المقروءة، المرئية والمسموعة عن انتاج مواد تتعلق بما بعد الحداثة. ويرى كيربي ان الشعور بلا جدوى النظريات أدى إلى موتها.
لقد أصبحت مسرحية مثل في (انتظار جودو) أو رواية (1984) لأورويل قديمة جداً بل وظهرت في واقع مغاير وسط نمط ثقافي مختلف. أما الآن مع ما بعد مابعد الحداثة فإنها تدفع القارئ لاتخاذ مواقف متعالية على الواقع المادي، بحيث يعتقد القارئ أن عليه الوصول لدرجة من البطولة والتعالي والتجاوز يهزم بها الواقع المادي المكبل لروحه. تقدم هذه الاستراتيجية السردية التعالي أو تجاوز الواقع المادي على انه السبيل للوصول للحقيقة، على عكس التشظي الذي يسود عالم مابعد الحداثة والذي اتفق فيه الجميع على ان لا حقيقة اساساً بل محض تأويلات متأثرة بالسياق التاريخي والمحلي المصاحب لها.
يقول آلان كيربي: إن “مابعد مابعد الحداثة” على عكس “مابعد الحداثة” تضفي على المتلقي، وليس الكاتب أهمية، وكأنه شارك في كتابه أو هو من كتب العمل برمته. يرى المتفاءلون أن هذه هي (دمقرطة الثقافة)، لكن المتشائمين يرون أنها دليل على أن المنتجات الثقافية المعاصرة تافهة وضحلة ومن هنا يقول كيربي: (أعتقد أن ما يحدث أكثر من مجرد تغيير في النمط الثقافي، مفهومنا للسلطة، للمعرفة، للأنا، للواقع وللزمن قد تغير فجأة وإلى الأبد؛ هناك فجوة بين المحاضرين والطلبة، تلك الفجوة التي ظهرت في أواخر 1960 لكن الأسباب مختلفة. فالتحول من الحداثة إلى مابعد الحداثة لم ينبع من اعادة صياغة عميقة للعلاقة بين العرض والطلب في الثقافة، بل حدث بسبب لهجة خطابية مبالغ فيها، لكن في أواخر التسعينات وأوائل الألفية الجديدة، أعادت التكنولوجيا الحديثة هيكلة طبيعة الكاتب والقارئ والنص والعلاقة بينهم بعنف وإلى الأبد)
تُصوّر الثقافة المعاصرة مابعد الحداثة في مشهد يجلس فيه الفرد عاجزاً، يطرح أسئلة عن الحقيقة كأشكاليات، لذلك ارتبط الفرد ارتباطاً وثيقاً بشاشات السينما والتلفزيون. ظهر بعد ذلك نوع من الحداثة الزائفة، حيث أصبحت مشاركة المتلقي جزءاً من الناتج الثقافي، يظهر ذلك في كل برنامج تلفزيوني أو إذاعي، وفي النصوص التي توجهها وتحرك مسارها مشاركات المشاهد أو المستمع – تكون فيه الاتصالات الواردة للبرامج حقيقية برعاية الأخ الأكبر لذلك أسميها (حداثة زائفة)، فالمتصل ليس فعلاً المشاهد أو المستمع المستهدف المطلوب رأيه. تشمل الحداثة الزائفة كذلك ألعاب الكومبيوتر التي تضع الفرد في سياق خلق المحتوى الثقافي، ضمن حدود مرسومة مسبقاً، فيتعدد محتوى اللعبة بتعدد شخصيات اللاعبين.
أكثر الظواهر الثقافية الدالة على الحداثة الزائفة هو (الانترنت) فكرة أن الفرد بمجرد نقر الفأرة يتحرك بين عدد لانهائي من الصفحات، يخلق فضاء لمنتجات ثقافية وجدت لتوها ولن توجد مرة أخرى. ينخرط بعدها الفرد بشكل كثيف في عمليات ثقافية تعطيه احساساً زائفاً بأنه يتحكم ويدير ويخلق بيئته الثقافية الخاصة بمنتجاتها فصفحات الانترنت ليست مؤلفة، بمعنى أن لا أحد يهتم من كتبها. على الأغلب تعمل الصفحات اعتماداً على اضافات العوام مثل ويكيبيديا، أو عن طريق ردود الفعل في التعليقات مثل مواقع التواصل، ما يتميز به الانترنت بشكل جوهري هو ان أي شخص يستطيع اضافة أي صفحة ( كالمدونات) في مابعد الحداثة، الشخص يقرأ، يستمع، يشاهد كالمعتاد. لكن في الحداثة الزائفة الشخص يتصل، ينقر، يطبع، يتصفح، يختار. هنا تكمن الفجوة الجيلية، والتي تفرق بشدة بين الناس الذين ولدوا قبل 1980 وبعده.
يرى من ولدوا بعد 1980 انهم وأقرانهم أحرار مستقلين، مبتكرين، فعالين، مسيطرين صوتهم مميز عالي ومسموع. مابعد الحداثة وماقبلها على العكس من ذلك تبدو نخبوية مملة، كمشهد متكرر يضطهدهم ويسد الأفق أمامهم، أولئك الذين ولدوا قبل 1980 يرون، المقصود هنا ليس الناس، المحتوى والمشاهد والوسائل التي تتسم بالعنف، بالإباحية، بغير الواقعية، مبتذلة، مملة استهلاكية، بلا معنى وبلهاء ويكون عصر ماقبل الحداثة الزائفة بالنسبة لهم هو العصر الذهبي للذكاء، والإبداع، والتمرد، والأصالة. ومن هنا جاء أسم (الحداثة الزائفة) الذي ينطوي ضمنياً على توتر بين التطور الذي تقدمه التكنولوجيا، وتفاهة وجهل محتواها في نفس الوقت.
إنما يحدث ليس مجرد تغيير في نمط الثقافي مابعد الحداثي بل بالأحرى ولادة مفاهيم جديدة للسلطة، للمعرفة، للأنا، للواقع، للزمن، مفاهيم جديدة تعيد تعريف العلاقة بين القارئ والنص بعنف وللأبد، ففي حين أن بعد الحداثة كانت تطرح اشكاليات كالواقع والحقيقة كأسئلة استفهامية ووجودية، تتناول الحداثة الزائفة الحقيقة على انها (أنا)، أنا المتعالي المتجاوز للواقع المادي، (أنا) الخالق للحدث بالتفاعل الحي مع الأحداث وتصويرها بالكاميرات ونشرها في مقاطع الانترنت، أنا من يخلق الحقيقة نتيجة لذلك، يحل الجهل والتعصب الناجم عن تضخم الأنا محل الروح الساخرة الناتجة عن القلق الوجودي والعدمية المصاحبة لما بعد الحداثة.
الآن تفتح بوابة مابعد الإنسانية وهذا المصطلح تم تداوله على نحو متزايد من قبل عديد من المفكرين والفلاسفة. اعتمد الفيلسوف بيتر سلوترديك عام 1999 مصطلح مابعد الإنسانية قاصداً أننا ننتقل من (العابر للانسانية (الترانس هيومانيسم) إلى (البُست هيومانيسم)، وهو زمن سيختفي فيه الإنسان الذي عرفناه واحتفينا به طيلة آلاف السنين. سيصبح الإنسان من الغابرين من تلك الكائنات التي كانت ثم زالت. لم يبقَ من الإنسانية التي عرفتها شيئاً مذكوراً. ستصبح القيم التي قامت عليها حياتها هباءً منثوراً، وتنهار المبادئ التي بنى الإنسان عليها تاريخه في الأرض ومعارفنا ستذروها رياح هوجاء لا تبقي ولا تذر. وكثير من المفكرين يرون بأنها النهاية وحقائق العلوم تقول بذلك وتؤكدها يوماً بعد يوم: التكنولوجيا الاصطناعية، تكنولوجيا الضئيل، جامعة التمايز، طب الاصلاح التقليدي، النانو تكنولوجيا، جامعة الفوارق، طب الإضافة، الإنسان الآلي، العقل الافتراضي، علوم الاعصاب.
فها نحن ذاهبون إلى أزمان سيكون فيها اللامنتظر، المفاجئ من القواعد الاساسية التي تحكم العالم ونرى الإنسان النصف آلي والنصف حيواني والنصف بيولوجي شبه جاهز. فالعبور هو المقدمة للوصول إلى القطيعة. يقرر كروزويل دون أي شك أنه سيصار إلى تدعيم الإنسان برقاقات تكنولوجية إضافة إلى قطع غيار أخرى، التي تستهدف تجاوز الحدود الطبيعية التي تحكم الإنسان، لتجاوز قدراته البيولوجية والعقلية بواسطة تكنولوجيا متقدمة، وخصوصاً في حقل الذكاء الاصطناعي وإيجاد المبررات الفلسفية الداعمة في هذا التجاوز وتشريعه عقلياً وأخلاقياً والتأهيل المسبق بقبوله عبر مختلف الوسائط الفنية والثقافية والتربوية.
وما بعد الإنسانية تحتوي على سبع تعريفات على الأقل، وفقاً للفيلسوف فرانشيسكا فيرناندو معادية للانسانية. أي نظرية تنتقد الإنسانية التقليدية والأفكار التقليدية حول الإنسانية والظروف الإنسانية. ثقافة مابعد الإنسانية فرع من نظرية ثقافية ناقدة للافتراضات التأسيسية للإنسانية وإرثها الذي يفحص ويشكك في المفاهيم التاريخية الإنسانية والطبيعة الإنسانية.
يقترح الفيلسوف تيدساتزكي وجود نوعين من “ما بعد الإنسانية” من النوع الفلسفي، وهناك نوع ثالث من “ما بعد الانسانية” يرعاها الفيلسوف هيرمان دوويورد على الرغم من أنه لم يصفها بأنها (مابعد الإنسانية) إلا انه قام بنقد جوهري وانتقائي كبير للإنسانية، ثم قام ببناء فلسفة لا تفترض فكراً انسانياً ولا سكولاستياً أو يونانياً.
وقد قال ايهاب حسن: قد تنتهي النزعة الإنسانية، لأن الانسانية تحوّل نفسها إلى شيء يجب على المرء أن يدعوه بلا حيلة بعد البشرية. ومن المنظرين الذين يكملون ويتبادلون جوديث بتلر، وعلماء سيبرونيون مثل غريغوري بيتسون، وارن ماكولوتش، ونوربرت وينر، وبرونولاتور، وكاري وولف، والين غراهام، وناترين كايلز، دونا هاراواي، بيتر سلوترديك، وستيفان لورنز سورجنر، وهناك الفيلسوف روبرت بييريل الذي كتب عن حالة مابعد البشرية والتي غالباً ما يتم استبدالها بما بعد الانسانية.
آمن الفلاسفة السياسيون في هذا العصر أمثال بينجامين فرانكلين، ووليام جودوين، ونيك بوستروم الفيلسوف السويدي أن عدم المساواة والظلم وكذلك الموت يمكن القضاء عليه بواسطة التقدم العلمي، ولذلك كان ينظر إلى العلوم على انها امتداد للعقل، وأنها واحدة من أبرز المدارس الفكرية وتطبيقاته. وغالبا ما يستشهد بملحمة جلجامش غالباً على أنها أول الأعمال الأدبية الناجية، والتي تحتوي على ما قد يطلق عليه أول رواية مكتوبة، لشخص يسعى إلى تدخل مؤيد لما بعد الإنسانية، وهو بطل رواية ملك مدينة “أوروك” الذي ظلّ يبحث عن الخلود كما أنه غالباً ما يستشهد بالبحث عن الخلود باعتباره واحداً من غايات حركة مابعد الانسانية.
ومن بعيد عبر مجاهل القرون نسمع صوت المرأة وهي تقول: إلى أين تمضي يا جلجامش؟. إنّ الآلة كتبت الموت على الإنسان واحتفظت بالخلود، سيطرت كلمة الموت على الفلسفة ثم الأدب والفن: موت المؤلف، موت الشخصية، موت الناقد، وظهر مصطلح مابعد الدراما، مابعد التمثيل (في السياسة) مابعد فورد في (الاقتصاد)، مابعد الهوية (في علم الاجتماع) وكل هذا بسبب العولمة وازدياد موجات الهجرة ونهاية الدول القومية، فضلاً عن الثورة في تكنولوجيا الاتصالات التي كان لها أكبر الأثر في تفتيت ما هو جمعي، وفصل الفرد عن محيطه الطبقي والاجتماعي.
سلطة التفاهة (الميديوقراطية) هو كتاب للفيلسوف الكندي (آلان دونو)، والذي يرصد فيه التفاهة كنسق متغلغل ضمن تفاصيل الأوضاع السياسية والاجتماعية، تصنعه وتدعمه قوى عولمية وامبراطورية عابرة للدول والمجتمعات، وبخاصة الرأسمالية وقواها المتوحشة إذ تحكم أسواقها وصراعاتها بعرض التفاهات كبضائع رائجة وغدت هي المادة الراكدة على المقاهي ومنصات الاعلام وعبر البورصات وأقبية السياسة الدولية. ورغم ذلك لا يعد الأمر بهذه السذاجة المريحة لأن عبارة نظام التفاهة تفترض وجود إرادة تفاهة، وليس هذا منطقياً ولا سيما بالنسبة للجانب الأخلاقي، فلا يوجد هناك من يستطيع الانتهاك العام لقيم قد تلحق به الأذى المعنوي أيضاً يحتاج النظام إذا افترضنا اقترانه بالتفاهة وعياً مفارقاً بما يؤديه من نتائج وآثار وعلى المنوال ذاته يحكم النظام سلوك الأفراد والجماعات استناداً إلى انه لا يجري نظام بلا سلطة.
بالفعل يرى دونو أن البلاهة غدت تقنية من تقنيات الأنظمة السياسية، وهي لا تأتي دون أقطاب يحملون منظومات وأفكاراً وخططاً قابلة للتطبيق الفارق، إنه إذا كان البلهاء تافهين حتى النخاع، فالسلطة تعطيهم نظاماً خاصاً لإضفاء الجدية والمشروعية على أفعالهم، أي أن السلطة مصفاة لا تستثني البلهاء، بل تعطيهم قدرات صارمة وفاعلة على المستوى الجمعي، فالسلطة لا تخدع فحسب، إنما تشرعن الخداع طوال الوقت مادامت هي التي تغلف وجوده. إنها صدفة لامعة تحوي داخلها يرقات وطحالب التفاهة التي تتناسل بجوف السياسات المهيمنة.
كل سياسة من هذا الصنف هي الحاضنة التي توفر شروطاً لنمو الطحالب التافهة. وللدقة فإن السلطة قد تفرز مايخادع جمهورها العريض إلا ان التافهين يتعاملون معها سياسياً بشكل متواطئ وهنا يأتي مفهوم الكتلة من التفاهة المهيمنة الآخذة في الانتشار.
الحاكم التافه يتعامل مع السياسة بمنطق الكتلة لدرجة أن نظامه السياسي يسير وفقاً لفيزياء خاصة، يحرص على اشاعة روح البلاهة عن طريق شبكة كبيرة من الموالين والأنصار والحلفاء وأصحاب المصالح شريطة أن يكونوا على ذات المستوى من التفاهة، وأن يكون التسابق لا لصالح الدولة إنما لترسيخ السلطة وسطوتها بشكل أفقي عام، بواسطة العلاقات بين التافهين تتكون شبكة التفاهة تلتهم النظام السياسي، وتستبقه معبرة عن مصالحها. التافهون كالجراد البري لدى الأنظمة السياسية العربية، ينتشرون في كل مكان، يتراقصون على كافة المسارح، يلتصقون بالكراسي التصاق الديكتاتور بحذاء السلطة وزيّها الرسمي. لقد بلغ التافهون المدى في التعليم والثقافة والسياسة والفن والإعلام والواقع الافتراضي، أصبح الواقع مغطى بكمٍّ مهول من لعاب التافهين.
فالرأسمالية لا ترتبط بحروب لنهب ثروات العالمية والسيطرة على الشعوب ومركزية السوق والاستهلاك، بل لن يتم كل ذلك إلا إذا جعلت الانسان نفسه أحد السلع التافهة. شرط الرأسمالية المسيسة أن تغرق الانسان في أوحال التفاهة. إن السوق الحقيقي في السياسة هي سوق التفاهات.