المنشور

الترامبيِّة

مثلما ارتبطت حقبة أمريكية حالكة (1947-1957) بجوزيف مكارثي النائب الجمهوري في الكونجرس الأمريكي واكتسبت مسمى “المكارثيِّة” (توجيه اتهامات بالتآمر والخيانة جزافاً دون الأخذ بالأدلَّة)، كذلك سترتبط بدونالد ترامب الرئيس الأمريكي الخامس والأربعين حقبته الكارثيَّة وستكتسب مسمى “الترامبيِّة”(اتخاذ قرارات ومواقف سريعة وفق مزاجية وأهواء فردية دون اعتبار لانعكاساتها السلبية على المجتمع الأمريكي وعلى العالم أجمع).
وإذا كان الضرر الذي خلفته “المكارثيِّة” كفكر وسياسة نائب واحد في الكونجرس قد انعكست حلكتها على الداخل الأمريكي فحسب، فإن “الترامبيِّة” كأداء وسياسات رئيس دولة هي القطب الأوحد عالمياً في المرحلة الراهنة، قد انعكست كارثيَّتها على المجتمع الأمريكي ودول العالم وذاق ويلاتها المجتمع الدولي برمته.
لم يأت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من خلفية سياسية، ولم يمر بتجربة عمل سياسي ذي قيمة تؤهله مثل سابقيه من الرؤساء الأمريكيين لتبوُّء المنصب السياسي الأول والأخطر والأكثر حساسية على مستوى العالم. جاء ترامب بخلفية رجل الأعمال الملياردير متنوع الاستثمارات من تشييد الأبراج ناطحة السحاب إلى نوادي القمار إلى الاستثمار في برامج الواقع التلفزيونية، فهو شخصية تلفزيونية شهيرة عالمياً أنتج وقدَّم برامج تلفزيونية عديدة ربح منها مئات الملايين من الدولارات. وفي كل ذلك هو المستثمر الذي يضع في أولوياته حسابات الربح لا الخسارة، ولا بأس لبلوغ ذلك من توظيف أكثر السبل التواء وتهرباً من الالتزامات.
يفصح المنتج الوثائقي بالإضافة لعديد التحليلات النفسية عن سمات شخصية الرئيس ترامب وماهيَّة أدائه كرجل البيت الأبيض ذي المنصب العالمي الأكثر حساسية وتأثيراً. شخصية حيوية، استعراضية محبة للظهور، طموحة يشغلها تحقيق النجاحات وبلوغ القمم فيها، وهي في ذلك تملك جلداً على امتصاص الانتقادات وتجاوز الإخفاقات بسبل شتى وطرق ملتوية. شخصية منفردة بالرأي، سريعة في اتخاذ القرار، نرجسية منتقمة غير متسامحة تجاه من لا يروق لها أو يختلف معها من قادة الدول والمسئولين. شخصية متكبرة تنظر للآخر باستعلاء ظاهر، لا تتورع عن الافتراء وتشويه السمعة والسخرية والتفوه بالكلام النابي. شخصية عنصرية تجاه المجموعات الاثنية والملونين وحتى ذوي الاحتياجات الخاصة.
رفع ترامب شعار “أمريكا أولاً” وأدار معاركه مع دول العالم مستلهماً الشعار، بيد أننا سنجد أن المجتمع الأمريكي كان هو الخاسر الأكبر خلال ولايته. ردَّد ترامب دوماً أن سياساته قد أسهمت في نمو الاقتصاد الأمريكي وفي توفير فرص عمل وفي ارتفاع الدخل العام للولايات المتحدة الأمريكية. على عكس ذلك يعلن الخبراء والمحللون الاقتصاديون المختصون أن سياسات الرئيس ترامب أفرزت مشاكل اقتصادية عديدة وقع الاقتصاد الأمريكي في براثنها على غير صعيد.
خاض ترامب حرباً تجارية واسعة ومتعددة الأوجه مع الصين التي تمكنت وبقدرات فذة مبهرة من تجاوز كل الإشكالات الاقتصادية والتجارية التي تسبب ترامب في بروزها. خاض أيضاَ حرباً تجارية حول الألمنيوم مع كندا وثالثة مع المكسيك. ووفقاً لمعطيات التحليلات المختصة أضعفت تلك الحروب الأسواق الأمريكية وخلّفت عجزاً تجارياً اجمالياً ودفعت بالبنك المركزي الأمريكي لخفض أسعار الفائدة، كما ارتفعت الرسوم الجمركية ونسب إفلاس المزارعين.
اتبع ترامب سياسة عدم الاهتمام بحرب أسعار النفط الدائرة عالمياً بما فيها استئجار الناقلات فأفلس جراء ذلك ما يربو على الخمسين شركة أمريكية. انكمشت صناعات أخرى وتناقصت شيئاً فشيئاً نسبة إسهام قطاع الصناعة في الناتج الداخلي الأمريكي. أخذ الاقتصاد الأمريكي يتراجع وارتفعت الأسعار وانخفض معدل الأجور وتزايد عدد العاطلين.
اتَّبع ترامب سياسة اللامبالاة وعدم الاهتمام بمواجهة جائحة كورونا وقلَّل من خطرها ولم يلتزم شخصياً بالاحترازات الوقائية، بل ودعا حشود مناصريه إلى عدم الالتزام. كانت سياسته تلك وبالاً على المجتمع والاقتصاد الأمريكي. أصبحت أمريكا رائدة التطور الاقتصادي والعلمي والتقني عبر العالم ضمن أسوأ البلدان في إجراءات مواجهة الجائحة، والأعلى نسبة عالمية في عدد الاصابات بالفيروس وعدد الوفيات جرائه.
لقد ضربت جائحة كورونا الاقتصاد الأمريكي ضربة قاصمة فاتجه للمزيد من التراجع والانكماش ودخلت أمريكا ركوداً اقتصادياً فاق ركود 2008. تزايد ارتفاع الأسعار وفقد أكثر من عشرين مليون مواطن أمريكي وظائفهم، وبلغ عجز الموازنة 3.1 تريليون، وغدا الدين الفيدرالي أكبر من الناتج المحلي وذلك لم يحدث في الولايات المتحدة إلا إبان الحرب العالمية الثانية. اليوم يقدِّر المختصون الحاجة إلى 1.8 تريليون لإنعاش الاقتصاد الأمريكي من جديد.
على الصعيد المجتمعي أذكى ترامب وغذَّى انقسام المجتمع الأمريكي سواءً في حملاته الانتخابية أو لقاءاته الجماهيرية بتوظيف نزعته العنصرية الشعبوية وتحريضه على العنف. استجابت له مجاميع الأمريكيين البيض من الفئات المجتمعية المعوزة ذات المستوى التعليمي المتوسط خاصة فئات الشباب من الجنسين وجمهور برامجه التلفزيونية ممن يحلمون بمستقبل أفضل ويتمثلون الشهرة والثروة والنجومية التي يجسدها ترامب. وفي أوساط شعب يحمل الكثير من أفراده السلاح أذكت سياسات ترامب العنصرية توجهات العنف ضد الآخر والقتل التي ارتفعت بمستويات عالية لم يعرفها المجتمع الأمريكي على مدى عقد سابق لولايته. اليوم تنبئ غالب توقعات المراقبين بأن الولايات المتحدة الأمريكية مقدمة على المزيد من الصراعات ومن العنف.
على الصعيد العالمي خلق ترامب عداوات مع دول تحالف “بريكس”، وسوء علاقة مع دول المجموعة الأوربية وغيرهما. في الشرق الأوسط أذكت سياسات ترامب الصراعات والحروب في اليمن، سوريا، ليبيا، العراق، لبنان، إيران وغيرها ونهبت أموال وخيرات دول المنطقة العربية. والأدهى من كل ذلك أن سياساته ومشاريعه أضرَّت أيّما ضرر بالقضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني بمستوى لم يسبق له مثيل منذ اغتصاب فلسطين 1948. إسرائيل هي الرابح الأكبر من ولاية ترامب، ولم تحلم بما قدّمه لها على طبق من ذهب في حزمة ما كُشف عنه ونُفِّذ من صفقة القرن، والخشية كل الخشية مما سيسفر عنه باقي بنودها.
سيظل العالم يتذكر لعقود طويلة أي ويلات كارثيَّة جلبتها “الترامبيِّة” على المجتمع الأمريكي وعلى العالم أجمع.