تأملوا اللوحة جيداً. ماذا ترون؟ مَن هم يا ترى هؤلاء الأشخاص؟ ماذا يفعلون؟ حدّقوا في معالم وجوههم قليلاً.
سترونهم باسمين، ضاحكين، فالبعض منهم منهمك بمحادثة الآخر بتفاعل لافت. والبعض الآخر مشغول بمحاكاة الطبيعة الفرحة من حوله. ما يعطي وحدة كبيرة وحضورًا كبيرًا للوحة بأكملها ليس هو النساء، دعنا نقول ذلك، وإنما النظرة التي تربط الشخصيات في التكوين.
جميل كم التضاد بين الأزرق والأحمر والأخضر الذي يعكس أسلوب الفن الانطباعي، أو قبعات القش الصفراء التي تخطف عين المشاهد لتذكره بجو الصيف المشمس. يمتد البعد البؤري إلى نقاط عدة في اللوحة ليشمل المظلة المخططة التي تضفي حميمة على المشهد، أو الأشجار الحاضنة للحضور بجوّها الباهي. سهل على المشاهد الضياع في تفاصيل هذه اللوحة، فكل الألوان موجودة، وكل الحضور مشغول بعمل ممتع ما.
تلك هي لوحات رينوار الإنطباعية. هذه اللوحة التي أسماها الفنان في الأساس: “غداء مرتدي القبعات”، تحكي قصة مجموعة من الأصدقاء العائدين من رحلة على متن قارب، و اجتماعهم حول مائدة غداء عطلة نهاية الأسبوع الخالية عادة من الهموم. إن تفكرّنا قليلا، لأدركنا أنه من الطبيعي أن يثمر عن اجتماع البشر راحة نفسية وشعور عميق بالطمأنينة، ذلك لأن المرء لا يستطيع الفرح لوحده، لاحتياجه إلى الآخر لخلق شعور السعادة وتعميمه.
رسم الفنان الفرنسي بيير أوغست رينوار هذه اللوحة في العام 1881، ليعكس التغيير الذي طرأ على مجتمعه إبان الثورة الصناعية، حيث نجد في هذه اللوحة اشتياقاً لبساطة الحياة وعفويتها، زد على ذلك شغفاً بتصوير الملامح البشرية والمشاهدات من الحياة العامة السعيدة، وكأنما رينوار يعانق مخيلته ليذكرنا بحلاوة غداء نهاية الأسبوع مع الأحباب.
ولادة رينوار على مشارف نهاية القرن التاسع العشر ومعاصرته بداية القرن العشرين جعله يعيش حربين، عانت خلالهما الإنسانية من انعدام روحها، ومن تلاشي قيم السلام والحب والتسامح، أي كل العوامل الأساسية التي تجلب السعادة للبشر. لهذا السبب، رفض رينوار خلال كل مسيرته الفنية إدخال آثار التوترات السياسية والمجتمعية على لوحاته، معللاً ذلك بأن الفن انبثق لإعطاء البشر ما لم يستطيعوا اهدائه لأنفسهم: السعادة والسلام. الفن وظف لجعل الحياة أفضل، لخلق مأوى آمن للحب والشغف، حيث المخيلة تستطيع أخذ قسط من الراحة بعيداً عن اضطرابات الحياة اليومية.
يرجح بأن رينوار، ومن أجل رسم هذه اللوحة، قام بجمع عدد من الأصدقاء من الوسط الفني في مطعم “ميزون فورنيه” العائم. وهو مطعم يعود لصديقه ألفونس فورنيه الذي أنشأه عام 1875 بعدما اشترى قطعة أرض على ضفاف نهر السين لتحويلها لفندق ومطعم. لسوء حظه، أتت الثورة الصناعية لتتخلص شيئا فشيئا من المؤسسات الصغيرة، فهجر المطعم، حتى عادت إليه الحياة مجدداً عام 1999 ضمن مبادرة من عمدة المدينة وبتمويل من جمعية أصدقاء الفن الفرنسي الأمريكي.
بيير أوغست رينوار أضحى أهم الفنانين الانطباعيين الذي بفنه نشر رسالة مفادها الآتي: “لا أحد منا يستطيع تذوق متعة الحياة لوحده، فقد خلقنا جميعا لنتعايش مع بعضنا، وذلك ضمن اتحاد مع الطبيعة الحاضنة لكل البشر”.
الجدير بالذكر، أنه من أجل أن يجني رينوار قوت يومه من ممارسة ما يحب، كان يدق أبواب الفرنسيين الأغنياء لرسمهم، مما كان يعطيه جدارة أن يقول: ”إن لم يكن الفن مصدر امتاع لي، فإنني بالتأكيد ما كنت لأمارسه”.