الى جانب ما يغرق البحرينيين من هموم، يأتى التقرير السابع عشر لديوان الرقابة المالية والادارية
لعامي 2019 -2020 ليثير مجدداً المواجع، ويضيف اليهم هماً، وأي همّ!
ولأنهم ألفوا الهموم، وباتوا على قناعة بأن ردود أفعالهم على أي تقرير جديد يصدره ديوان الرقابة لن يجدى، وباتوا يشعرون أن كل ردود الفعل لم ولن تكون مثمرة ومجدية فى يوم من الأيام، ربما لهذا السبب كان استقبالهم للتقرير الجديد فاتراً بشكل غير مسبوق. لم ينشغلوا به كعادتهم كل عام، لا من قبل الصحف، ولا من الكتّاب، ولا من النشطاء، ولا من غيرهم ممن تعوّدنا منهم ردود فعل على كل تقرير يصدر، بما فى ذلك مواقع التواصل الاجتماعي، مرّ بما يشبه اللامبالاة، كأن ثمة قناعة بأن باب الأمل موصود، وان أمر محاسبة مسؤول معدوم كأنه قدر مكتوب، او فى مصاف التمنيات والمستحيلات، وهذا أمر جدير بالدراسة والتحرى والمراجعة!
حتى أولئك النواب الذين دأبوا على استثمار كل تقرير جديد يصدر ويبدون ضجرهم، ويستعيضون عما يجب أن يقوموا به تحت قبة البرلمان بالشوشرة واستثارة المشاعر، والتهديد والوعيد، وإغداق الوعود، والاستعراضات الاعلامية الخالية من كل المفاعيل، كفّوا هذا العام عن قول ما سمعناه وقرأناه مراراً وتكراراً ولم يعد يشدّنا.
هؤلاء يتناسون أن جبهة المواجهة الحقيقية على التجاوزات والمخالفات، وتفعيل آليات المساءلة والمحاسبة رغم كل القيود، محلها تحت قبة البرلمان، ولكن يلاحظ بأنه حتى هؤلاء النواب لم تكن ردود أفعالهم هذه السنة كالمعتاد، أو بنفس الزخم المعهود، ربما هى منهجية جديدة من قبلهم فى التعاطي مع التقرير يواكبون بها المنهجية الجديدة لديوان الرقابة المالية والادارية التى أعلن عنها فى إنجاز تقريره الجديد، ربما أراد النواب ذلك ليستخلصوا من هذه المنهجية ما يفيد.
من باب التنبيه والإحاطة، فإن ما نشرته الصحف المحلية هو ملخص مقدّم من ديوان الرقابة المالية والإدارية مكون من 13 صفحة فقط، التزمت او ألزمت الصحف بنشرها خلافاً لما كان يحدث طيلة السنوات السابقة حيث كانت الصحف تتسلم التقرير كاملاً بعدد صفحاته التى تتجاوز فى الغالب 400 صفحة، وكل صحيفة تختار ما تشاء لتسلط الضوء عليه، وبالتفصيلات التى تراها مناسبة، وبالعناوين اللافتة والمثيرة.
نحن هنا لسنا فى وارد استعراض ما جاء فى التقرير الأخير، ولا شئ منه، وهو فى معظمه، وكالعادة، يكشف بأن هناك من لم ينهضوا بمسؤولياتهم كما يجب، وأن هناك ما يستوجب استنفار أدوات المساءلة والمحاسبة، ولكن أردنا أن نتوقف أمام بعض ما يسترعى الانتباه، ومن يتمتعون بموهبة التقاط الاشارات فإن هناك الكثير مما قد يستوقفهم !
إضافة إلى ذلك، يسترعى الانتباه أن التقرير الجديد كما ذكرنا قوبل هذا العام بتعامل فاتر وغير مألوف، والتصريحات النارية لبعض النواب توقفت بالرغم من أن كلام بعضهم من واقع تجارب سنوات مضت محض ثرثرة فارغة لم تحقق نتيجة تذكر، وكأن الكل عاجز عن الفعل وعن استخدام أدواته الدستورية فى المساءلة والمحاسبة، رغم ان الثابت بان النواب هم ممن يفترض ان يبنوا مداميك هذه الأدوات، لا أن يراكموا الخيبات ويدورن ليعودوا الى بيت القصيد، وبيت القصيد هنا متوّج بعلامات الاستفهام والتعجب خاصة حيال بعضهم، أو كثير منهم ممن جعلوا قيم المساءلة والمحاسبة تدور فى ارجوحة الضياع، كما كان الحال سابقاً ولاحقاً وحالياً حتى الآن على الأقل، وكأن هناك من يصر ويتعمد على ان يجعل هذه الأدوات والقيم عاطلة او معطلة، او تعانى ما يشبه البطالة السافرة أو المقنعة، وهذا أمر مكلف للغاية و يبعث على الحزن والأسى.
اما المواطن فهو أمام “الغابة الخلاقة” من المخالفات والارتكابات والفساد والمساس بالمال العام من قبل دائمي الجشع للمكاسب والمصالح والمنافع الخاصة ويتربحون من وظائفهم بأبهى ما عندهم، هذا المواطن سيظل يحلم ولو بمحاسبة ومساءلة مسؤول واحد، لا إلى ما يعزز شعوره بأن من يرتكبون المخالفات محصنون من المساءلة والعقاب، وبالتالي لازال المواطن يحلم بالابتعاد عن الدوران فى المكان، والمراوحة فى العجز الذى يجعل كل تقرير الرقابة من تقارير الرقابة فى دائرة الإقامة الجبرية عند نقطة الصفر، فلا نعرف متى نغادر حالة تكرار المخالفات أو حتى الملاحظات التى يصر البعض على تسميتها كذلك من قبل العديد من الوزارات والهيئات والمؤسسات والشركات التابعة للدولة.
كما لا يعرف المواطن اي جواب على سؤال يفرض نفسه وهو: ما فائدة اي تقرير رقابي يصدر عن جهة موثوقة ورفيعة المستوى تتابع وترصد وتوثق بما تملكه من كوادر وأدوات وصلاحيات مظاهر خلل ومخالفات أوحتى ملاحظات وفى نفس الوقت تسمح لذات الجهات، وليس جهات رقابية اخرى محايدة، ان تفند، او تبرر، وإن اعترفت فى ردودها فعلى طريقة “سنتخذ اللازم”، ومادام هناك من بشرّنا بأن اللازم سيتخذ فكيف يمكن تفسير تكرار المخالفات، بل ويبقى من ارتكبوا ذات المآخذ والمخالفات فى مواقعهم، ثم أليس من حق المواطن معرفة طبيعة الإجراءات التى اتخذت فى سياق اتخاذ اللازم!
لا نظن، رغم أن بعض الظن إثم، أن طريقة التعامل مع التقرير الرقابي الأخير ستختلف عن التعاطى مع التقارير السابقة التى نكأت جروحاً وكشفت عن تقيحات لم تمتد اليها يد بالتطهير والعلاج، من هذا الباب والحيرة تملؤنا نقول: ليس مفاجئاً أبداً القول إن كل تقرير ينسينا ما جاء فى التقرير الذى سبقه، لقد تعودنا بعد كل تقرير أن يظهر من يؤكد لنا بما معناه بأن التحقيق قائم حيال بعض الوقائع ذات الشبهة بارتكاب الفساد، أو تلك التى تسببت فى أضرار ناشئة عن اهمال وهدر فى التعامل مع المال العام، والإنفاق فى غير الأوجه المحددة، ووُعدنا اثر كل تقرير باستظهار الحقيقة، او على وجه الدقة، جملة الحقائق التى لازلنا بانتظارها، ولازلنا فى انتظار تسمية الأمور بإسمائها، منذ سنوات ولازلنا فى الانتظار، كما لازلنا فى انتظار اعلان محاسبة او اسقاط وزير او احالة مسؤول إلى النيابة العامة، أو القضاء.
ونحن نعلم جيداً أن شيئاً من هذا النوع الذى يزخر به أي تقرير من تقارير ديوان الرقابة لو حدث فى بلدان أخرى لكانت هناك أصداء نعرفها جميعا، أبرزها استقالة أو إقالة المعنيين، وإحالتهم للمحاكمة، هذا إن لم يؤدِ ذلك إلى استقالة الحكومة برمتها، من باب الشعور بالمسؤولية التضامنية الأدبية والسياسية، ولأن قيمة المسؤولية حاضرة على الدوام ولا تغيب عن الوعي العام، حيث لها أثر واعتبار ومكانة عالية فى القيم السائدة، وهذا أمر لا مساومة عليه فى تلك البلدان، ولا مجال للتفريط أو الاجتهاد فيه.
مؤسف أن ما يجرى يرسخ لثقافة التجاوزات وتكرار ذات المخالفات وأوجه الخلل فى أكثر من تقرير، وهو ما يشكل صدمة وخيبة فى آن واحد، صدمة من أن آليات المساءلة والمحاسبة لضبط الأداء المالى والادارى فى منظومة العمل الحكومى بالشكل اللازم لم تستيقظ بعد من رقدة العدم، والخيبة أولاً من ردود تكاد أن تكون معلومة مسبقاً، ولا تشفى الغليل ولا تضمن بأن عنصر الحساب والعقاب قد أخذ مساره الصحيح فى شأن هذا الملف او ذلك التجاوز، والخيبة ثانياً من تكرار المخالفات والتجاوزات، اضافة الى الجديد منها، والخيبة اخيراً من نواب كلما يوضعون أمام مسؤولياتهم بعد كل تقرير لا يخرجون عن دائرة الكلام المراوغ من نوع “لن نسمح بمرور التجاوزات مرور الكرام، وسنتخذ أدواتنا البرلمانية”، وقائمة المراوحة معروفة، كما هي معروفة قائمة المراوحين.
نصيحة للجميع: اكبحوا جماح تشاؤمنا، ولا تنسوا انكم أمام امتحان جديد فلا تمعنوا فى جعل العمل البرلماني محبطأً، باختصار لا تعملوا ضد أنفسكم!