حينما بدأت قصة الخليقة، وتعددت رواياتها، تفرّع البشر إلى كل المهن، لم يكن الدين مهنة تكسُّب مثل الوظيفة بشكلها الحالي، بل هي محل احترام وتقدير على مرّ الأزمان. لكنه في وقت ما، وفي ظروف ليست غامضة تماماً، أصبحت الأديان محلّ تجارة خطيرة ذات مردود مادي وسلطوي كبير، وتخويل بإدارة أمور البشر في أدق التفاصيل.
وهكذا تعامد الطرفان: طرف سلطة دينية أبوية مجتمعية لها حرية الحكم والتحريك وإصدار قوانين –مطاعة بالضرورة – يتقاطع بعضها مع العقل، وطرف آخر سلّم مسؤولية التفكير ببساطة لشخص أو جماعة من الطرف الأول، ضمن لائحة لا جدال ولا تشكيك. فالفرد المكتفي بقدر محدود من العلم، يخاف من مزيده؛ لأنه من سيوضع في ركن المسؤولية التي سلمها هو بإرادته وقناعته التي ترى أن الطريق الأسلم للنجاة هو البقاء مع العموم ممن سلموا قبله، وما سيجري عليهم سيجري عليه داخل حلقة الأمان هذه؛ لا خوف ولا قلق!
وليست هذه فكرة للعبث بمعتقدات، أو خرق ما يسمى بالتابوهات التي عفى عليها الزمن بفضل تطور الأدوات المعرفية، فمازالت هناك طرق التفاف كثيرة متاحة لطرح الموضوعات، وعقلنة كثير من الأمور، بأسلوب لا يتصادم مع صاحب الرأي الآخر؛ فقط للفهم، وحتى يكون السلوك بعدها على يقين من صحته، وليس اتباعاً لما تمّ توارثه، دون معرفة مناسبته أصله/ ضرر تركه/ أو فائدة متابعته. حتى أن بعض المشتغلين بالدين أعادوا تشكيل ما أكدّت عليه الأديان من مثل عليا في التسامح والمحبة والسلام، وتخصصت في تفاصيل الاختلاف؛ حتى تحشد الأتباع ضد من يخالفهم، بوصفهم الفئة الفائزة بالجنة، وما عداها ذر في هواء، وعلى ضلالة قطعاً.
أن تكون داخل الجماعة، لا يعني بالضرورة أن تفكر بطريقتهم، وتتبنى أفكارهم إن كانت على غير قناعتك، بعد إشباعها بحثاً – بالتأكيد لا -؛ وليست لأنها لم توافق هواك. فالبحث عما وراء الجدار، ورؤيتك بنفسك للمحتوى، أفضل من أي وصف وشرح يأتي ممن وكّل نفسه أن يقوم بذلك مقابل إجلال قد لا يستحقه.
فكيف يرفض المرء فكرة الترفع عما دفعت إليه الأديان أصلاً؛ في التأمل والعبادة النابعة من الشكر الصادق لكثير من النعم، والدعوة للتأمل في التكوين والخلق، في حين أن التفكُّر ورد – مثلاً – في القرآن الكريم نحو تسع عشرة مرة، معظمها مقرونة بالتدبر، وإدراك المعاني والإيمان؟ وفي هذه الحالة، يجب على الدينيين “الحقيقيين” الدفع بتنوير العامة، عبر فتح أفكار تنحو لسيادة العقل، والتحرر من التبعية غير المبررة، مع التأكيد الشديد والحازم جداً في أن الوصول إلى نتيجة – بعد التفكر- يجب أن تحدث بتريث، وعلى مهل مُرضٍ.
وقد قُدّمت صورة السلطة الدينية بأشكال مختلفة في الدراما، حسب توجه القائمين عليها أيضاً. فعندما يعمدون إلى تقديم “علي الظاهري”، الذي جسّد شخصيته عادل إمام في فيلم “الإرهابي” 1994، من تأليف لينين الرملي، وإخراج نادر جلال، في وقت كان الإرهاب يرتكب باسم الدين، بيّن الفيلم كيف تنتقى عينات مثل البطل: جهل، وفقر، وجوع، وقابلية تلقائية لعمل ما يؤمر به، حتى لو كان قتل أبرياء، تحت مظلة الدين.
وحين تطرأ أسئلة مشروعة جداً حول شيء ما، يُمنع بشكل قاطع من الجدال، رغم أنه لم يتخطَّ مرحلة الفهم أصلاً، وتحصيل الأجوبة عن الأساسيات التي يتبعها ويمثلها، باعتبارها من مهام الكبير/ الأمير، الذي سيفتح له السؤال والنقاش باب تهديد لمكانته المكتسبة، وهو يتلقى أموالاً من جهة ما غير معلومة، إلا له ولمن في مقامه، يلقي بفتاتها على “الظاهري” وأمثاله ممن يعبرون هذه الحياة مغيبين، بلا بصمة شخصية لهم، دون أن يتجرأوا على السؤال أو المقارنة، لأنهم – أمام الكبير- لازالوا في مرحلة القصور العقلي التي لا تسمح لهم بتجاوز حدود وهمية مرسومة للمحافظة عليهم وعلى المجتمع الذي يتم تحشيدهم للدفاع معتقداته بالشكل المطلوب.
وبينما البطل هنا مغلوب على أمره، مهما كان “فاعلاً”، منذ استشعرت الدراما خطر الإرهاب على المجتمع، يتم تقديم الشكل المتشدد الذي يشبه أحياناً نماذج قريبة من محيط حياة الفرد، لكن بمبالغة في رسم شخصياتها، حيث يميل القائمون عليها إلى إيصال رسالة: اخرج من القوقعة، فالعالم يتسع لمزيد من الأخطاء وأنت تمارس انسانيتك. فكِّر بلا قيد، وأعمل عقلك كما أراد الله لك. لذا نرى الاختلاف في شخصية “الديني” باختلاف موقعه، ونضجه، وتكوينه الفكري أيضاً. في مسلسل “الداعية” (2013) تأليف مدحت العدل وإخراج جمال العدل الذي قدم الشاب الوسيم صاحب البرنامج الديني على إحدى الفضائيات، والذي يحمل آراء حادة/ متطرفة/ وواثقة أيضاً، وهذه الثقة تتسرب إلى مريديه في هيئة إيمانية لا تقبل الحياد، لأنه أقفل باب النقاش بزعم الوصول إلى الحقيقة المطلقة غير القابلة للتفاوض.
وفي المقابل، هناك من يسخِّر نفسه لأن يكون تبعاً طول حياته. لذا فجمهور الداعية موجود ومتجدد أيضاً، وهو أمين في آرائه التي لا يعيش انفصاماً عنها، حتى مع أسرته الصغيرة التي يحمل عبء مسؤولياتها صغيراً، وقت كان والده يلهث وراء ملذاته، فالحرام حرام بحزم داخل المنزل، والموسيقى حرام، والأفراح الصغيرة التي تخلفها ذكرى أعياد الميلاد بدعة تؤدي إلى النار مباشرة، حتى يتعرف على جارته؛ عازفة الكمان في الأوبرا، ويحدث التغيير الدراماتيكي المنتظر من الدراما، والنادر في الحياة!
هذان النموذجان تحديداً يؤكدان أنه متى ما وُجدت الحرية، سيوجد الفن الذي يُحرر العقل من الجمود والنمطية، وميل الحياة لمزيد من الحب والجمال والسلام، لأنها قيم لا يمكن أن تتوفر في الأجواء المنغلقة التي تحكم قبضتها على مصادر السعادة، وترى المتع الجميلة الكائنة في لوحة تشكيلية، أو مسرح، أو أي فن، منبعاً للفساد وميوعة المجتمعات.
إن التفكّر هو المنحة العظيمة التي يجب أن تستغل بالشكل الأمثل، الذي يضيف للحياة نكهة، ولوناً، وتميزاً عن الآخرين، ومنطقة خاصة لا تشبه الآخرين. ولو أراد الخالق أن تكون تبعاً، لما ساوى في اكتمال تكوين عقل إنسان وآخر، أحدهما قرر أن يكون نسخة مطيعة مغمضة العينين والقلب!
وبين فرق الزي العصري للداعية، وعلي الظاهري بالشكل النمطي المهلهل للمتطرف، فإن المضمون واحد، والتعبئة من مصدر واحد؛ التكسب متعدد، ولكنه متشابه، والمجتمعات تبحث عن مخلص يجنبها عناء التفكير. وقد تكون مسألة السلطة مبررة، حين كانت المعرفة مقتصرة على من يجيد القراءة والكتابة، وتتوافر لديه مصادر التعلم قديماً، لكنه غير مقبول بعد انقضاء هذه المرحلة، وتراجع نسب الأمية في كل العالم بفضل تصاعد الاقتصاد وتبعاته، وما ينتج عنه من تحسين نوعية الحياة، وعليه توفر المعرفة بكافة أشكالها ومصادرها الورقية، أو عبر محرك البحث السريع، وهي مراجع تمكن القارئ الواعي من التبحُّر في أي تخصص – ربما نستثني منها التخصصات العلمية الدقيقة التي تحتاج إلى ممارسة عملية – من تكوين أفكار ونتائج يتوسل إليها بقناعة الباحث الذي لا يمانع أن يصحح أو يحدثها بناء على مستجدات وحقائق مادية جديدة.
كما أن من غير المنطقي أيضاً أن يعمم هذا الشكل على كل من ينتمي للسلطة الدينية. ولكن التركيز على من يحولها لمحل “استرزاق”، أو كسب عيش، سواء عبر العطايا التي تأخذ شكل “الأتاوة” المقنعة، أو جزية تعطى ظاهرياً برضا، وباطنياً بحسابات ثواب وعقاب في الدنيا وفي الحياة الأخرى، دون القدرة على تحييد العقل والتفكير في ماهية المنح.
وبمجرد الاطلاع على بعض كتب السيرة، أو حتى الدراما التي كتبت حولها، فإن قليلاً من الوعي سيكشف مدى “التأليه” غير المبرر لأشخاص لهم بالتأكيد أخطاؤهم كبشر، والتي تدفعهم أنفسهم البشرية إلى الميل نحو شهوة ما، مما يجعل الصورة المثالية غير مقنِعة على الإطلاق، حتى وإن ملنا عاطفياً لأشخاص معينين، بحكم مواقف شهدناها، أو تاريخ يروى أو يسود من قبل آخرين يسلطون الضوء على الجانب الإيجابي الذي يخصهم تحديداً.
إن إجلال ممثلي الدين – أو من في دوائرهم – يجب أن يتفق مع المنطق، ولا يتم التسليم لمجرد الدرجة العلمية، التي غالباً لا تكون موجودة، لأن مجرد الانتظام في دار عبادة، وتغيير الزي، وحفظ نصوص مقدسة، يخول صاحبها إلى تبوّأ سلطة واحتراماً يفوق التعامل مع بقية البشر، أو ممارسة أفكار اعتدنا على وجودها في كل أمور الحياة دون إدراك معناها وجوهرها، وبدون إعطاء أنفسنا فرصة للتفكير والمراجعة وتفعيل العقل الذي ميز به الإنسان دوناً عن غيره من المخلوقات، وإلا سنشكو الخوف من التقدم دون أن نعرف مصدره ولا الحدود التي تحول دون تحقيق الفهم والاطمئنان إلى قناعاتنا، والخشية من مصير آخرين قرروا التقدّم وتراجعوا لأنهم شاهدوا تصنيفاً وعقاباً أو سمعوا به فآثروا السلامة صامتين.
كلام الصور
صورة 1
عادل إمام في مسلسل “الإرهابي”
صورة 2
لينين الرملي
صورة 3
هاني سلامة