تتهادى في مشيتها بين القبور، تأنُّ من وجع الفراق وهي تتخطى الأشواك التي زرعتها المقبرة بقدميها المكسورتين واللتين مزقتهمها الحياة رغم صغر سنها، “تمردغ” بقدميها رمال المقبرة الملتهبة. تملأ نعليها رمال ممزوجة بالحصى. لا تكترث بتضاعف الألم من الأشواك والحصى الحادة في قدميها.
تسقط قبل الوصول إلى القبر المطلوب فيسيل الدم من فمها وتجرح يدها اليمنى، تحاول أن تبكي تلبية لنداء طفولتها، ولكن لا دموع تسقط ولا صوت يستطيع أن يصرخ من حنجرتها الصغيرة الملتهبة.
بخطوات صغيرة وكبيرة في سرّها تصل إلى القبر المطلوب، تتعثر وتسقط على وجهها المنكمش المليء بكدمات غيبت ملامح وجهها، رائحة الدم التي سالت من فمها غيبتها لصورٍ مرّت أمامها بلمح البصر، لعب، صراخ، حب، دماء، سكين، جري ومشنقة ! تستيقظ مذعورة بعد نوبة بكاء ينقذها بها أحدهم بإبريق من الماء البارد، تفيق تشهق بقوة وتدخل في نوبة بكاء حادة.
صور الدم والصراخ المخيف الممزوج بالحب والبراءة تجعلها تحتضر لتجد نفسها في ذلك البستان الأخضر الذي صنع بصمة جميلة في قريتها الصغيرة هناك بعيداً عن ضجيج البشر وبعيداً أيضا عن المناظر الصناعية التي صنعها الإنسان ليمتد بظلاله إلى آخر القرية. أستغل الأطفال لعبهم في هذه البقعة الجميلة حيث لا شمس حارقة ولا ضجيج يعكر صفوهم. ضحكاتهم البريئة ضاعفت جمال المكان.غنائهم وموسيقى تغريد العصافير جعلت الأشجار ترقص رغم بشاعة ما حولها من حياة مختلفة. الفتيان والفتيات حيث الحب والنقاء والبراءة فقط، انهمكوا في اللعب بتعدد اجناسهم وألوانهم يلعبون بحب بعيداً عن تهكمات المجتمع دون الاكتراث بما يضجّ به المجتمع من عنصرية الجنس واللون، وقبح العادات والتقاليد التي تقتل الجمال، بل كانت الضحكات ممزوجة بالأبيض والأسود والطفل والطفلة.
اخدتهم لعبة (السكونة) التي رسموها على التراب الأحمر إلى عالم مختلف عما حولهم، عالم مليء بالحب فقط، كانوا يلعبون بأرواحهم ورغم تساقطهم على بعضهم أحيانا، إلا أن أرواحهم الملائكية تنسيهم آلام السقوط والجروح فور سقوطهم .
فجأة علا صراخ هزّ قلوب الأطفال وعكّر جوهم المرح، وحتى الأشجار نكست رؤوسها من خجل قطع فرحة الأطفال، غاب تغريد العصافير وحلّ مكانه فقط صوت القلوب المهتزة الذي أظلم المكان.
لم يخطر في أذهان الأطفال أن حوادثهم العفوية في اللعب كفيلة بأن تقتل فرحتهم بل وأن تمزق قلوبهم وأرواحهم. ولكن حين تغيب الرحمة عن قلب الإنسان تظلم روحه فلا تهمس نفسه إلا بعفن الحياة. فلا رحمة من إنسان هيمنت على مسامعه أصوات شياطين المجتمع وهو يرى طفل الخامسة قد سقط سهوا على طفلة السابعة “العفة، الشرف، السمعة، شرف العائلة، الفسق والفجور. “لا تفسد الفتاة إلا من جذورها”. كل هذه الكلمات رنّت في اذنه ليعمي الغضب بصيرته، وهو يصرخ كالشيطان في أوجه الأطفال الذين تعالت أصواتهم خوفا من الدماء التي طالت ملابسهم البيضاء، وحتى أصوات العظام التي كسرت لتبقي على مسامعهم طوال أعمارهم حكاية فاجعة سيعيشون تفاصيلها .
“الرحمة تبقي القلب نابضا”. غياب جسدها تدريجيا عن الوعي لم يمنع قلبها أن يخفق خوفا على والدها الذي لوثت لحيته الكثيفة دماءها النقية وهي تراه معلقا بالحبل السميك على شجرة الزيتون “سيخنقك الحبل يا أبي”.
تفتح عيناها، الظلام يسيطر على المكان، تزيح الرمال من على جسدها النحيل، تخرج من مرقدها المظلم، تمشي سريعاً، تتعثر بمشيتها، تمزق قدميها الأشواك، تسقط على القبر. تغيب في نوبة بكاء حادة، يوقظها الماء البارد، تمسح دمعتها البريئة: “هل ما زال الحبل يخنقك يا أبي ؟.”. لا إجابة إلا صوت أنين نابع من القبر، تمسح دمعتها وتغادر إلى قبر سلامها المظلم.