قد يجد كل قارئ في أحيانٍ ما أحدهم يقول له: (اشغل نفسك بما هو أنفع). ويُقصد بالعمل النافع في فكرنا السائد الذي نمَّطته منظومة الإنتاج الرأسمالية: “كل عمل يجلب لك منفعة مادية”. كنت ممسكاً بكتابي ومر علي أحد الزملاء فسألني: ما الذي يدفعك نحو القراءة؟ أو لماذا تحب القراءة؟ فأجبته: لتحقيق كينونتي كإنسان.
يحكى أن عبدالله بن عباس سمع أحدهم يتلو: “وما خلقنا الجن والإنس إلا ليعبدون. فقال: لا والله، بل ليعرفون”. العبادة لا تتحقق من دون المعرفة أولاً، ولتعدد المعارف تتعدد طرق العبادة. كذلك سائر تداعيات الفعل الإنساني: الحب، الثورة، الولاء، العمل. لا يمكن لهذه الأفعال والمشاعر أن تسبق المعرفة، وإلا ستكون عبثاً. إنك لا يمكن أن تحقق كينونتك الإنسانية التي مُيِّزَتْ بالعقل من غير استخدامه لمعرفة الأشياء، واكتشاف حقائق العالم. والعقل مثل سائر أعضاء البدن إذا لم تستخدمه أصيب بالضعف، وسيستخدمه غيرك لتصييرك تبعا له. لا ينتقل الإنسان من المرحلة البهيمية إلى المرحلة الإنسانية من غير المعرفة. فصفة إنسان تبقى صفة اسمية لا تتعلق بكينونته.
في إحدى تفاسير قصة الخلق المتعارف عليها في الديانات السامية، يحكى أن الفاكهة المحرمة التي قطفها آدم كانت فاكهة المعرفة الكلية للأشياء، وأن تلك المعرفة لا يجب أن يشارك فيها أحد الرب، وبهذا حُكم على آدم وبنيه بالنزول من الحياة الباقية إلى الحياة الفانية ليعمل ويكد ويشقى، وحُكم عليه بأن يجهل أبدا ويخاف أبداً. فنجد أنه كلما حاول أن يعرف ويقوده فضوله نحو الشجرة تتم إخافته من قبل السلطة التي لا تريده أن يعرف، إما بالخوف من الله وغضبه، أو الخوف من العذاب الدنيوي -السلطة الدنيوية-. دائما ما كانت صورة الرب المخيف، قرينة بتفسير السلطات، سواء من كانوا يتولون سلطة دينية على الناس أو سُلطة دنيوية، وفي أسوأ الأحوال إذا اجتمعت السلطتين معاً عليهم؛ كما حدث في أوربا القرون الوسطى وغراراتها في تاريخ البشرية. فكان الخوف يستخدم كعدو للمعرفة رغبة في تصيير الإنسان شيئا بهيمياً، يتبع ولا يسأل، ويطيع بتسليم تام.
هناك حكاية رمزية تقول بأن حريقا أصاب إحدى الغابات، فتدافعت الحيوانات للنجاة بنفسها، إلا أن القدر شاء أن تموت الصيصان لأن الحريق كان أسرع من قدرتها على الركض، فلم يبقَ منها سوى ذكر وأنثى. لم تجد الأم تفسيرا للحريق الذي حدث، فأخبرت أبناءها الجدد أن الراعي كان غاضباً من أسلافهم لأنهم لم يكبروا بسرعة ليستخدمهم له. وعندما كبرت مجموعة وصارت دجاجات تسلطت على اخوتها تخيفهم من نوائب الدهر وشر الراعي، ولتتقي ذلك وتحفظ حياة الصيصان أمرت بتقديم قرابين من أملاكهم، وأحيانا من الصيصان أنفسهم. إلا أن الصيصان الفقيرة والمستضعفة قررت أن تثور، مرة على شكل نكران جذري لفكرة الراعي الذي استخدمته السلطات كوسيلة تجهيل وإخضاع، ومرة على شكل تغيير صورة الراعي من الغاضب المخيف إلى المحب والصديق.
إن الخوف لا يجتمع مع الحب أبداً. هكذا كانت مثلا ثورة التصوف على الأكليروس الديني. فلا يمكن أن تحب حتى والدك إذا كنت تخاف منه، سيكون خوفك منه هو الدافع وراء طاعته. هناك اتفاق في تاريخ الفلسفة على أن الأمر الأخلاقي الذي يقول لك: “افعل كذا ولا تفعل كذا” ينبع من داخل ذاتك بالذات، سواء من الفطرة حسب روسو، أو الضمير حسب دوركهايم، أو من العقل كما يؤكد كانط. فحسب توضيح كانط: الأمر الأخلاقي لا تبرره أي غاية أخرى (فهو يجب لأنه يجب. نقطة على السطر). فإذا كنتُ لا أسرق بمبرر أن المبلغ ليس مغريا، أو خوفاً من السجن، أو خوفاً من عقاب الله، فالامتثال هنا ليس أخلاقياً، لأنه لا يصدر عن العقل بل نتيجة انفعالات كـ: الخوف، الطمع، العجز، وغيرها. حين يقول كانط “استخدم عقلك” ذاك لأن العقل معطل فهو يحتاج إلى التهديد والوعيد والترغيب وإثارة الشهوة لكي يطيع، فهو لا يطيع حُباً إنما يطيع خوفا ورغبة.
إن ذلك منتشر في نمط تربيتنا للطفل الصغير: “إذا فعلت هذا الفعل الحسن سنشتري لك هدية، إذا فعلت هذا الفعل القبيح لن تذهب إلى الحديقة”. لكنه ما إن يبلغ النضج العقلي تجده يفعل أفعالا حسنة لأنه يراها حسنة في تقييمه الذاتي لها، ويترك الأفعال القبيحة حين يستنتج ذاتياً أنها قبيحة. ولا يعني هذا ان هناك سِناً محدداً للنضج، بل قد يحين الإنسان أجلُهُ وتبقى أفعاله مرتبطة بمتعلقات الرغبة والخوف.
تنبهتْ لذلك رابعة العدوية حين قالت: “أحبك لا أحبك للثوابِ ولكني أحبك للعقابِ / وكل مآربي قد نلتَ منها سوى ملذوذ وجدي بالعذابِ” إنها وصلت للمحبة الإلهية فاستوى عندها الثواب والعقاب، بل هي لا تكترث له وتفضل العقاب على الثواب إذا ما بدر من المحبوب، لأن كل ما هو منه جميل. وكان أبو يزيد البسطامي يقول: “جاءني سيل عشقه فأحرَقَ الماء دوني، فبقي الواحد حين لم يزل أحد”. أي أنه لم يعد يخاف النار ولم يراها محرقة، ولم يعد يرى أي أحد او يهاب شيئاً لأن الله حباه عِشقَه فبقي هو وحده أمام ناظريه. فكان يقول ابن خضرويه: “رأيت رب العزة في منامي فقال لي: يا أحمد، كل الناس يطلبون مني، إلا أبا يزيد فإنه يطلبني”. ولم يستسغ ملا صدرا فكرة العقاب الأبدي للإنسان نتيجة أفعال اقترفها في حياة مؤقته، فذلك لا يصدر من رب عادل رحيم. لكن آيات النار لا يمكن الإفلات من صراحتها في القرآن، خصوصا من رجل مثل ملا صدرا، فأخذ يفسر العقاب بكونه مؤقتاً ثم يصبح أهل النار من جنس النار فيكون نعيمهم بها وعذابهم في الخروج منها. وكما تقول إليف شافاك: إن الإنسان يرى الله على صورته، فإذا امتلأ القلب رحمة وشفقة على الناس رأى الله أشفق منه عليهم، وإذا امتلأ قلبه قسوة رأه جباراً عتيدا. أو كما اختصر الجنيد البغدادي الفكرة بقوله: “لون الماء لون إنائه”.
ما نستنتجه إذاً أن السعادة تتحقق أولاً في الإنسان من خلال استقلاله الفكري والمعرفي فلا يكون تابعاً لأحد، وأن يتحرر ثانياً من الخوف، وأن يملأ ذاته ثالثاً بالحب والرحمة اتجاه النفس والخلق.