إِنْ كنا سنجد لا وعي الإنسان في أحلامهِ وفلتاتِ لسانهِ، والتّداعي الحُرّ لذكرياتهِ وتهويماتهِ أثناء الاسترخاء على أريكةِ المحلّل النفسي. فأين يمكنُ أن نجدَ لا وعي المدينة، الذي هو بطريقةٍ ما، يشكّلها ويدفعُ سلوكها رغم ندرة حضورهِ الظّاهر في الحياةِ اليوميّة؟.
إن الإنسانَ ليلجأ إلى جعل المكانِ مرآةً لما في نفسهِ من صراعاتٍ شديدةِ التجريد. لأنّه سيجدُ في الصِيغ المكانيّة مجازًا ووسيلةً للتعبير. فالبيتُ النموذجي كما حدّده “غاستون باشلار” يمكن أن نجدَ فيه القبو والعِليّة. حيثُ يصبحُ فيهِ القبو بالنسبةِ للإنسانِ في أحلامِ يقظتهِ بمثابة اللاوعي من حيث ارتباطهِ بالعالمِ السفليّ المُظلم بكائناتهِ الزّاحفةِ البطئيةِ الغامضة، وتكونُ العليّة فيهِ بمثابةِ الأنا الأعلى لارتباطها بالسقفِ والسماء. وقد استعارَ باشلار من المحلّل النفسي “كارل غوستاف يونغ” مثالاً عمّا يعنيه هروب الإنسان الحديثِ من عقده النفسيّة، أي هروبه من مواجهةِ لا وعيهِ: “مثلَ رجلٍ سمعَ صوتًا مريبًا في القبو فأسرعَ إلى العليّة، وحينَ لم يجد لصوصًا فيها قدّر أنّ ما سمعهُ مجرّد وهم. بينما في حقيقة الأمر، لم يجرؤ هذا الرجل على المجازفةِ بدخول القبو”. كي ما يوضّح فكرته عن اللاوعي، يستعمل “يونغ” هنا مجازًا مكانيًّا. فليس القبو الواقعيُّ سوى امتدادٍ لأحلامِ يقظتنا عنه، والتي هي لم تأتِ اعتباطًا، وإنما بتركيبٍ من تعامل الإنسانِ برغباتهِ ومخاوفه مع القبو الواقعي الذي يحملُ في حقيقتهِ ما يحفّز تلك المخاوف والرغبات.
ولو عُدنا إلى تجلياتِ هذا المفهوم في فيلم “الأم” في قراءةٍ أخرى، إذ يسرد الفيلم التاريخ الديني بطريقة رمزيّة وفق بيئة غربيّة معاصرة على طريقة رواية “أولاد حارتنا”، التي رمّزت التاريخ الديني ضمن البيئة المصريّة، بل من غير المعقول أن لا يكون مخرج الفيلم أو مؤلفه قد أطلع على تلك الرواية، لكنّ بينهما اختلافًا هامًا، فرواية نجيب محفوظ، محورها الرئيسي هو العدل والبحث عن الفردوس المفقود في عزبة الأب، بينما المحور الهام في الفيلم هو “العنف”.. قطرات الدم البسيطة كافية لأن تخترق أرضية الغرفة وصولاً إلى قبو البيت الذي يرمزإلى اللاوعي حيث عنف الطبيعة. هذا الدم غير قابل للتنظيف، وكل ما فعلته الممثلة “جينفر” التي ترمز للطبيعة الأم أن غطت بقعة الدّم بسجادة رقيقة. الفيلم يتخذ من “الأم” زاوية للنظر، بينما يمثل الشاعر، الممثل خافيير”الرب” الذي اتخذ من الغرفة العلويّة مقرًا لابداع نصوصه، تاركًا الجميع على هواه، فيما تقوم زوجته بكل الأعباء في تجديد البيت وتحمّل الضيوف المزعجين ـ أيْ البشرـ.
وإن كان اللاوعيُّ عند الإنسان يتشكّل من مكبوتاتهِ في الطفولة المبكّرة وغرائزه المقموعة، سيكونُ في المدينةِ أيضَا تجسيدٌ لكلّ هذا. وستعملُ المدينةُ الحديثةُ أيضَا، مثل ذلك الرجل في مثال “يونغ”، على الهربِ من لا وعيها بالذهابِ إلى العليّة. إذ ستقلّ فيها الأماكن المُظْلمة بفعل الإنارة، خصوصًا مع الانتقال من الإنارة بالمشاعل، إلى فوانيس الغاز، وصولاً إلى الكهرباء. الإنارةُ هنا تزدادُ حتّى تصلَ إلى كلّ الأماكن والأزقّة الضيقة.
وقد يبدو غريبًا أنْ أعتبرَ هذهِ الإنارة هروبًا. فبالطبعِ أدركُ ضرورتها العمليّة، بل وأثرها الاجتماعي الإيجابي، وأساس نشأتها الاقتصاديّة حيثُ أنّ أوّل ما تمّ إنارتهُ في مدينةِ باريس بفوانيس الغاز كانت الشوارعُ العريضةُ ذات المتاجر الكبيرة، وذلك لإطالةِ أمَد التسوّق. أدركُ هذا، ولكنّ هذهِ الإنارة تاتي ضمن سياقٍ أشمل في المدينة وهي تنمو مبتعدةً عن الطبيعة. فهل الليلُ الذي نعيشهُ الآن هو الليلُ الذي عاشهُ أجدادنا؟ إنّ ليلَ المدينةِ لا يثيرُ هواجس ميتافيزيقيّة كما كان يفعلُ ليلُ القرية القديمِ المليءِ بالألغاز والخرافات التي تتسلّل من الهدوءِ المُطبق عبر أصواتِ الحشرات، إلى مُخيّلة المعتكفِ في منزلهِ. وإن كان من شيءٍ سيثيرهُ ليلُ المدينة فهو الرّغباتُ التي تشعُّ من نيون يافطاتِ الإعلاناتِ على البنايات، أو المخاوف من غريبٍ مجهولٍ عندما نتمشي في ساعةٍ متأخرة في أماكن قليلة الروُّاد.
إنّ ارتباطَ فلسفة التنوير بباريس، وبعض المدن الأوروبيّة ترافقَ أيضًا مع الإنارةِ في الشوارع، في التباسٍ بينِ المعنيين. حين قَطعتْ تلكَ الفلسفة العلاقةَ بين ماضيها في القرون الوسطى، والتي تُسمّى مجازًا بالقرون المظلمة، هاربةً إلى “عليّة” العقل كي ما تُخضِع ضمن منطقها كلّ ما تعتبرهُ مُظلمًا وغامضّا وبدائيًّا. بدءًا من ماضي القرون الوسطى الذي سيتحوّل إلى مجرّد مادةٍ في المتحف حينَ تمّ إنشاؤه مع ولادة الدول الحديثة في الغرب، وليس انتهاءً باستعمار الشعوب في أسيا وأفريقا والأمريكيتين والتحكُّم بمقدراتها. تلكَ الشعوب التي تمثّل لا وعي المدينة الحديثة. ولذا سيكون من اللازمِ إخضاعُها ضمن المنطق الغربي.
أدركُ أنّ للأمرِ دوافعَ اقتصاديّة، ولكنّ الشّكل الذي كان يتّخذهُ تبريرُ الاستعمارِ هو ذريعةُ نشر قيمِ التحضّر. حيثُ لن يُسمحَ لتلكَ الشعوب إلا أن تكون مُقلّدة للمستعمر أو أن تعيش ضمن تراثٍ مُقلّم لهُ طقوسه الفلكوريّة التي تُدهش الغربيين، ولكن بعد نزعِ قيمتهِ الحقيقيّة. أليس هذا ما يحدثُ حين تحاول دولةٌ ناميّة، في الوقتِ الحاضرِ، أن تنشر موادَ إعلاميّة عن السياحةِ في بلدها. حيث ستقدّم لهم صورةَ الحداثة التي تقلّد الغرب، لكنّها ستقدّم التراثَ أيضَا بعد أن يتمّ تغطيتهُ بالشمعِ كي ما يصبحَ مادّة للفرجة يستطيعُ الآخر أن يتفاعل معها، أي بعد إضفاء الطابعِ الجماليّ عليه، ونزعِ أثرهِ الاجتماعي والنفسي والسياسي. هذا ما أعنيهِ بالهروب من قبو المدينة إلى عليّتها. فحين يذهبُ السّائحُ إلى مدينةٍ، لن يستطيعَ فهمها من خلال عروض الأزياء والرقصات، بقدر ما سيفهمها بذهابهِ إلى حيثُ لا زالتْ تلكَ الثقافة التي أنتجتها فاعلةً في بيئتها الحقيقيّة، والتي لن تكونَ مقدّمةً في بروشورات السياحة. إن رؤيةَ شجرة قد تعطينا تصورّا عن الغابة، لكنّها لن تمنحنا معنى العيش في غابة.
إن الابتعادّ عن الطبيعة، ذهنيًا وواقعيًّا، سيدفع الإنسانَ المتحضّر لاستدعائها أحيانًا إلى بيئته، ولكن في شكلٍ حديثُ مثل هندسة الحدائق. التي ستكونُ الغايةُ منها هي معايشةُ الطبيعة ولكن بعدَ نزع خاصيّتها الغامضة أو المثيرة للقلق لتكوّن مرتّبةً ومفهومة، خصوصًا حين يكونُ جُهد الإنسان واضحًا في هندستها.
كما أنّ طفولة المدينة، التي هي لا وعيها أيضَا، يمكنُ أن نراها في ريفها أو ضواحيها البائسة التي لم تلتحقَ كثيرًا بالتحديثِ، والتي قد تستبعدُ من الحضورِ الإعلامي في مدينةٍ نامية لتنتشر صور واجهاتِ المباني الفخمة. أو يتمُّ تأطيرهُ في السياحّة ليصبح غير حقيقيّ، تمامًا مثل دخولِ نفق الرعب في مدينة الملاهي. بما يمثّله من تجربةً زائفةً تهدف إلى الإثارة عبر استفزاز المخاوف، وليس عبر مواجهتها في الحقيقة. هكذا تصبحُ زيارةُ بعض الاماكن الشعبيّة المقترحةِ من وزاراتِ السياحة. أو الذهابِ في رحلةِ تخييمٍ في الصحراء، أو القيام بجولةِ لرؤية وحيد القرن في أفريقيّا.
إن أي زيارةٍ إلى مدينة، لن يكتمل فهمنا لها إن لم نذهب مناطقها الخلفيّة، أي إلى مكبوتاتها. كما أنّ غرائز المدينة سنجدها في الطبيعةِ التي شُيّدت فيها. أهي صحراءٌ أم غاباتٌ أم جبال. وقد تتمثّل المكبوتاتُ في الضواحي الفقيرة ذاتِ التوتراتِ الاجتماعيّة، والأزقّة الخلفيّة قليلةِ المارّة، والسجون، ومستشفياتِ المجانين.
فالحياةُ ما قبل المدنيّة، لم تكن تحدث فيها مثل التمايزات الحادّة بين العاقل والمجنون، الغني والفقير، الوجيه والشّقي. فجميعهم كانوا يعيشون ضمن فضاءٍ واحد. وكلّما تمّدن المجتمع، كلّما أقامَ مثل هذهِ التمايزاتِ الحادّة لفصل التفاعل الاجتماعي. حيث لن يروا بعضهم بعضًا إلا من التلصص من حلال زجاج التلفاز والهاتف.
ولذا سنجدُ أنّ نشوء أوّل “مستشفى للمجانين” في البحرين 1932م، كان قد سبقهُ بناء مؤسسات الدولة الحديثة. حيثُ كان تابعًا أول الأمر إلى بلديّة المنامة التي تمّ إنشاؤها في عام 1920م. فمنذ نشوء بلديّة المنامة سيتمُّ وضع عدّة تمايزات، من هو العاقل والمجنون، من هو البحريني وغير البحريني من خلال جوازات السفر بدءًا من عام 1937م. وسنجد في هذهِ الفترة، تحديدُ الأراضي، أماكن المنتزهات والحدائق، حتى تمّ انشاء حديثة للحيوان في منامة الخمسينات.
إن هذا التحديد من شروطِ المدنيّة، وأصل نشأتها، ولكنّ الثمن الذي يدفعهُ الإنسانُ ضريبةَ ذلك هو في ابتعادهِ عن اللاوعي، لكنّه سيتخذ أشكال جديدة من خلال الهروب.
فالإنسانُ البدائيُ أقربَ لأن يعيش حياة اللاوعي، كما وضّح فرويد وسمّاه طفولة العقل البشري، ولذلك يلجأ ذلك الإنسانُ إلى ابتكارِ الخرافاتِ والماورائيّات، عبادةِ الأسلاف، الطوطميّة وما إلى ذلك. وهنا لن يشكّ أي دارسٍ لعلم النفس بأن ذاتَ هذهِ العقليّة موجودة في المدن الحديثة، ولكنّها تبدو بمظاهر عقليّة. ولا أعني بذلك وجودها في هذا الفرد أو ذاك وحسب، وإنما هي موجودة في الأساطير التي ترويها المدن عن نفسها، وتنتج بها أشكالًا مختلفة من التعابيرِ الطقوسيّة. فحين اختفى عصر الرقص الجماعيّ الطقوسي، حلّت محلّها “حفلات الروك آند رول”، وما إلى ذلك مما يمكن تتبّعه. وفي حين كان البدائيُّ يعيشُ متناغمًا مع الطبيعة، حيث لا فصل بينه وبين الأشياءِ خارجه، والذي نسميّه نحن لا وعيًّا، ومبتكرًا لهُ رموزه التي تشكّل له لغةً في فهم العالم. لا زالت المجتمعاتُ الحديثةُ تعيشُ مطمئنّة بوهم عقلانيّتها. والتي سرعان ما تثبتُ هشاشتها حينَ يشتدُّ صراعُ الجماعات، أو في حينِ صعودِ نزعاتٍ فاشيّة.
كان البدائيُّ ينتجُ فنًّا يستطيعُ من خلالهِ أن يتطهّر نفسيًّا، وأن يشعر بوجودهِ يتحّقق من جديدٍ عبر تلك الطقوس فيما غدى الفنُّ الحديثُ يهدف إلى التسلية والإثارة. وهذا ما يعنيهِ الهروبُ إلى عليّة العقل. لأنّ الفصل بينَ ما هو وعي أو لا وعي، لم يكن ليوجد لولا تحقّق الوعي الذي هو أرفعُ من العقل الأداتي. ولذا سنجدُ أن المدنيّة الحديثة، كلما ابتعدتْ عن تحقيقِ الوعي، نحو العقل الأداتي. سترتدُ، أو ترتدُّ جموعٌ غفيرةٌ منها، نحو أفكار روحانيّة قديمة ترتدي لبوسًا حديثُا. أليس في هذا معنى انتشار كتبٍ شعبيّة مثل كتاب “السر” او انتشار الصوفيّة أو ألروحانيّة البوذية في المدن الغربيّة مع العولمة الرأسمالية، مثلما انتشر قبل ذلكَ التيّار الرومانسيّ مع الثورة الصناعيّة في القرن الثامن عشر.
ليس هذا دعوةٌ رومانسيّة للعودةِ إلى البدائيّة وإنما من أجل تكتشف المدينةُ لا وعيها من خلال فهمه ومواجهته، هو في دخول قبو المدينة (الرمزي)، وليس في هدمهِ أو اخضاعهِ أو وضعِ الإنارة الاصطناعيّة فيه حتى لتنتفي عنه صفة القبو. إن القبو الذي نلغي عنه صفة القبو، لن يختفي من وعينا تمامًا، وإنما ستبت بدلاً عنّه أقبيةٌ أخرى. أفلا تشكّل الحديقةُ الخلفيّة في منزلٍّ أمريكي خالٍ من القبو. ما يجعلها تشبهُ فكرة القبو؟. إن بحثنا المستمرّ عن تنوير الخارجِ ووضع الطبيعة تحت المجهر، لن يلغي الظلمةَ في النفس البشريّة، ولن يلغي المجهريات التي تعيش في ذواتنا. إنّه هروبُ للأمام.
ما لم تستطع المدينةُ أن تواجه خوفها المتجذّر من الموت، كما فعل جلجامش ببحثه عن زهرة الخلود، وكما تفعل المجتمعاتُ الحديثة بمسحِ أي أثر للشيخوخة عبر عملياتِ التجميل. حينَ لا تستطيع تقبّل فكرة الموت. فإن القبو سيظلّ موجودًا دائمًا. هذا الذي تحاولُ المدينة إبعادَه عن مجال وعيها. وهنا ستنتج المدينةُ أشياءَ عظيمة كي تمنحها صفة الخلود، لكنّ هذا الخلود سيُبْنى على الجماجم.
• من كتاب يصدر حديثًا: “المدينة والمدنيّة”.