لا يخلو العمل في القطاع العام من المخالفات والتجاوزات والأخطاء وشبهات الفساد فهذه طبيعة العمل. الطبيعة البشرية تجعل مثل هذه الممارسات واقع يستوجب التعامل معها دون القبول بها. تنقسم المخالفات بشكل عام الى ثلاثة اقسام. مخالفات ناجمة عن قصور في المنظومة السياسية والادارية ومؤسساتها وسياساتها. ومخالفات نتيجة عدم التزام المسئولين بالانظمة. ومخالفات صادرة عن تصرفات واجراءات فردية، أو جراء تعاون مجموعة من الأشخاص، على مستويات مختلفة من المسئولية، لإخفاء آثار التجاوزات أوإلباسها لباساً شرعياً، وهذه حالة فساد صارخ وهو أخطر الأنواع خصوصاً، إذا تمتع بحماية من جهات نافذة. وكل من هذه الأنواع الثلاثة يحتاج إلى معالجات مختلفة.
المخالفات الواردة في تقارير ديوان الرقابة المالية والادارية في معظمها من النوع الاول والثاني ولم تكشف التقارير المنشورة عن اي تجاوزات من النوع الثالث.
يقول رئيس اللجنة المالية النائب محمود البحراني بأن اللجنة ستقوم بدراسة متأنية للمخالفات الواردة في التقرير وستقدم توصياتها للمجلس بأسرع ما يمكن، ويقول بأن الأمل كان معقوداً على تركيز التقرير على تجاوزات المناقصات وقضايا الفساد والتجهيزات الإدارية الكبرى، لكنه لم ير ذلك في التقرير. أما رئيس اللجنة السابق على اسحاقي فيرى أهمية التعامل مع التقرير بشكل مختلف؟ هذا الاختلاف ينحصر فقط في سرعة الانتهاء منه! لأن هناك ميزانية تنتظرهم لإقرارها، وهذا عائق إجرائي.
النائب أحمد السلوم يتمنى مستوى أعلى من الشفافية في التعامل مع المال العام. ويضيف بأن تقرير هذا العام قدّم توصيات نوعية تختلف عن سابقاتها، ويعد بأن اللجنة ستعمل على تفعيل المحاسبة والمساءلة لفرض الإلتزام. أما النائب أحمد العامر فإنه يبدو غير متفائل بمخرجات دراسة التقرير بسبب صعوبة القرار في أي الأدوات تستخدم مهنياً، وأن النواب غير ملزمين كأفراد بأي أداة برلمانية، ولا يوجد اتفاق على أي الأدوات أفضل. بعبارة اخرى لا يثق بقدرة المجلس في اتخاذ قرار. وهذا عائق بنيوي.
أظهرت تصريحات النواب صعوبات اجرائية، ومشاكل التزام، ومعوقات بنيوية تقف عائقاً في تفعيل الأدوات الدستورية. وتطرح أسئلة حول ماهو المانع في تفعيل الأدوات الدستورية سابقاً، ولماذا بعد أكثر من عقد من الزمن لا يطرح هذا السؤال في المجلس كمناقشة عامة علنية؟ وثانياً: لماذا لا توجد إرادة جمعية لتفعيل ماهو متاح من أدوات؟ وثالثاً: هل الأدوات الدستورية كافية لمعالجة التجاوزات؟ يعول رئيس اللجنة المالية النائب محمود البحراني على تقديم توصيات بشأن المخالفات والتجاوزات، ويشير إلى استخدام الأدوات الدستورية من قبل المجلس ككيان واحد.
هذه الادوات (المناقشة والسؤال والتحقيق والاستجواب) كانت متوفرة منذ بداية المجلس ولم تتمكن من معالجة التجاوزات، فكيف الحال الآن وقد تمّ اضعافها في البرلمان السابق والحالي؟
المجلس مطالب بإعادة النظر في هذه الأدوات ورفع قدرته على حماية المال العام، ليس فقط في الميزانية العامة ولكن في جميع ايرادات الدولة والأملاك العامة، أي المال العام بجميع مكوناته الثلاثة. كذلك هو مطالب بمراقبة أداء الحكومة في تحقيق أهداف التنمية ورفع مستوى المعيشة وعدالة توزيع الثروة وتكافؤ في تحمل الأعباء الضريبية التي أصبحت أمراً واقعاً. وبالتالي فإن السؤال هل مجلس النواب بأدواته الدستورية الحالية قادر على التعامل مع تحديات تحسين الأداء ومراقبة المخالفات المتعلقة بالميزانية العامة وإيرادات الدولة وأملاكها؟ أم نحن بحاجة إلى مؤسسات اضافية وسياسات أخرى ومقاربة مختلفة لقضايا المال العام؟
تُبرز المخالفات والتجاوزات في التقارير حاجة لأدوات بنيوية ودستورية لرفع كفاءة الرقابة. لكن الأهم هو تغيير في المجلس النيابي نفسه من حيث القانون الانتخابي لتعديل التركيبة في المجلس ليكون للجمعيات السياسية دور أكبر مع تمثيل أفضل لفئات المجتمع والطبقة العاملة والجمعيات المهنية وتقليل الدوائر الانتخابية إلى أقصى حد بما لا يزيد عن خمس، ورفع مستوى صلاحيات المجلس في المساءلة ضمن رؤية شاملة لتقوية المجلس بشكل عام.
حينها يمكن رفع مستوى الحوكمة والتدقيق الداخلي وإعادة تصميم بعض العمليات وإنشاء هيئة لمكافحة الفساد. كل هذه المفاهيم وغيرها يمكن الإستفادة منها في طرح الحلول ضمن منظومة إدارية متكاملة منها: أولاً؛ انشاء جهاز تخطيط على مستوى الحكومة يضع أهداف بمشاركة مجتمعية ومؤشرات أداء متفق عليها مسبقاً، وتكون خاضعة للمساءلة. ثانيا؛ لا يمكن للمساءلة أن تؤتي نتائجها دون أن تتمتع المنظومة السياسية والإدارية بقدر من الشفافية تتيح للمجتمع متابعة أداء المؤسسات والوزارات والحكومة بشكل عام. غياب هذه الشفافية تؤدي إلى كثرة التكهنات وتعاظم الإتهامات وزيادة التشكيك في الإنجازات. ثالثاً؛ لكي تكون الشفافية فاعلة والمساءلة مؤثرة يتطلب الأمر توفر المعلومات وحرية التعبير في مناقشة الأداء والتقييم الموضوعي المبني على المعلومات الموثقة. رابعاً؛ في تقديم مقترحات الحلول يجب إدراك أن الغاية من الحوكمة ومن المنظومة السياسية والإدارية الفاعلة هي تحقيق الأهداف الاستراتيجية لتقدم وتنمية المجتمع سياسياً واقتصادياً وثقافياً ورفع مستوى الرفاهية للمواطن وضمان الأمن والاستقرار في الدولة.