يقول دويستوفسكي في رواية (الزوج الأبدي): “الأفكار العظيمة هي إلى حد ما ثمرة قلب كبير وليست نتيجة ذكاء كبير”. لقد تقدمت الإنسانية كثيرا في مجال العلوم والمعرفة، لكنها من دون المحبة والقلب العطوف إلى أين أخذتنا؟ الحرب، القتل، والكراهية! لذا فإن أكثر ما يحتاج إليه البشر اليوم هو غرس مشاعر المحبة التي تبني جسور العلاقات بينهم. وإن العقل وحده لا يكفي لذلك لمحدوديته، فكانت الأفكار دائما ما تضع البشر في عقد منغلق.
حين سألوا ألبير كامو إذا ما أراد تأليف كتاب عن الأخلاق فماذا سيكتب. قال: “لجعلته من مائة صفحة، تسعة وتسعون منها بيضاء وفي الأخيرة سأكتب: لا أعرف سوى واجب واحد، ألا وهو الحب”. فإن عاطفة المحبة هي التي تقف وراء كل عمل أخلاقي. كل عمل أخلاقي ينشأ من الرغبة في حفظ النوع، ونحن نسعى لحفظ حياة من نحب، وكلما أحببنا أكثر كلما اتسعت دائرتنا الأخلاقية، كلما وقفنا ضد الحرب، والكراهيات العرقية والدينية، وإذا اتسعت هذه الدائرة قد تشمل حب الحيوانات، وسنفكر ليس فقط في حفظ النوع البشري، وإنما في مفاهيم أخلاقية لحفظ الحياة بشكل عام، وقد ننخرط في النشاط البيئي وكيفية الحفاظ على الحياة الفطرية وما على الأرض من خيرات.
اليوم أحدثكم عن أهم أبجدية في أبجديات الإنسانية والتي تقوم عليها الأخلاق، واعتقد أن كل فعل بشري محمود قام على هذه الأبجدية، وهي: “عاطفة الحب”. ليس الحب المقترن بالعشق بين الرجل والمرأة، وإنما المحبة التي تتسع وتشمل كل شيء.
قالوا: “إن من يحب الله يحب خلقه”. لا يمكن أن تحب الله ولا تحب خلقه. وكنت أتساءل كيف يمكن أن يصدر هذا العالم المتعدد الثقافات والأديان واللغات والأعراق من خالق واحد؟ وكيف للواحد أن يضم هذه الكثرة؟
لم أجد إجابة لفترة طويلة، فإن كل مِلّة اعتنقت في الله صورة ما إن رأت خلافها أنكرته، وكانت أبجديات الكراهية تطغى على أبجديات الإنسانية حين يتحدث الإنسان عن الله. وأخيرا وجدت جوابا عند الفيلسوف الصوفي ابن عربي الذي أقام نظريته على فكرة الحب وتعدد الواحد، فإن الله خلق العالم محبة ورحمة بالخلق حين أوجدهم، وهم لمحبتهم إليه يطلبون العودة إلى أصلهم فلا يبقون هنا، وبين الإيجاد والعودة، على الإنسان أن يكون خليفة الله في أرضه بمحبة الناس ورحمتهم.
فالعالم مثل شجرة وما فيها من أغصان متفرعة وثمار شتى تتصل بجذر هذه الشجرة من غير أن يكون الجذر هو الأغصان ومن غير أن تكون الأغصان هي الجذر، لكن هذا الكل من أغصان وجذع وثمار وجذر يمثل الشجرة. وهذه هي نظرية وحدة الوجود، أي تعدد الأغصان في الواحد الذي يحضر في كل شيء في الطبيعة كحضور العدد واحد في كل الأعداد بنسبة وهذه النسبة هي التي تجعل العدد مختلفاً، الأعداد لا تستغني عن الواحد لكن الواحد مستغنٍ عن الأعداد إلا أن الوجود يكتمل بها ويتمايز.
هذه الوحدة هي نفسها التي دعا لها القرآن حين قال: “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا” أي يا قبائل العرب، يا من اغرقتكم التفرقة فيما بينكم باسم اوثانكم، وأصبح كل واحد منكم راضيا بثمرته ويتصارع عليها تعالوا نتحد ونعتصم بحبل الله، تعالوا ننظر كيف أننا كلنا شجرة واحدة لا تبنى على الكراهية والانغلاق، بل تبنى على اتصال كل اجزائها وتعاونها فيما بينها لتُخرج ثمار العالم من بارئها. لكننا بعد نبينا عدنا نتفرق باسم الله تفرق الجاهلية ونبني أوثاننا وينغلق كل منا على ثمرته. كان النبي شجرة حب في مواجهة ثمار الكراهية. لذلك لم يهدم المسلمون الأوثان التي وجدوها في العراق ومصر وبلاد فارس التي كانت تمثل اختلاف الأديان والثقافات وتنوعها في شجرة الوجود الإلهية، بينما حطم النبي أصنام مكة التي كانت تفرق بين الناس على أساس طبقتهم الاجتماعية ووجودهم القبلي والعشائري.
كل محبوب جميل ولكن ليس كل جميل محبوب، كل محبوب هو ما كان فاضلا وخلوقا وايجابيا أنت تراه جميلاً لهذه المفاهيم المعنوية، لكن الجميل الذي يدعوك للمستنقع، للدمار والكره، يصبح قبيحا مع الأيام وتحاول الانفكاك منه. مثل ان تنبهر بفتاة حسناء ولكن شيئا فشيئا مع الأيام يذهب بريق جمالها لقبح ما تحمل من المعاني والمفاهيم والسلوك المتدني. لذلك فالمحبة هي التي تقودك لرؤية الجمال، وليس الجمال هو الذي يقودك للمحبة، ولا يغرّنك ما يراه الناس جميلا، ولكن انظر بعين قلبك هل ترى فيه شيئا جميلا؟ هذا ما قاله تشي غيفارا: “إذا فرضت على الإنسان ظروف لا إنسانية ولم يتمرد فإنه سيفقد إنسانيته شيئا فشيئا”.
إننا نقيم علاقاتنا اليومية ليس على الرابط الفكري، فقد يقرّب الرابط الفكري بين شخص وشخص أو بين جماعة وجماعة تتناسب في مفاهيمها، لكن هذا الرابط لا يعول عليه بين المختلفين، وإن الرابط القلبي هو ما يقوي علاقاتنا بمن هم حولنا، فقد يشترك معك أحدهم في فكرة ولكن يختلف معك في المشاعر، وقد يختلف معك أحد في الأفكار ولكنه قريب منك بمشاعره وقلبه، إن علاقتك بالثاني تكون أقرب من الأول. لذا قيل في الإنجيل: “الله محبة”. الله محبة وليس فكرة من الأفكار لأن المحبة هي ما تجعل الإله إلها يضم الكثرة والإنسان إنساناً يشفق على المساكين وعلى الأرواح من الكائنات التي أدنى منه في مرتبة العقل.