“زمن الاعتذار .. مواجهة الماضي الاستعماري بشجاعة” عنوان الكتاب الذي صدر العام الماضي 2019 عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، وساهم في تحريره أربعة باحثين هم كل من: مارك جيبني، جين كوايكود، رودا. هوارد – هاسمان، نيكلاوس شتاينر، وهو من ترجمة كل من: عاطف معتمد، عمر عبد الفتاح، عزت زيان، نادية عبد الفتاح.
ولئن تناول الكتاب ما تعرض له العراق من غزو أمريكي 2003 ارتكب خلاله جرائم بشعة بحق شعبه؛ فإنه للأسف لم يتناول قضايا العالم العربي الاستعمارية القديمة والحديثة نسبياً؛ ومنها القضية الفلسطينية، وخطورة ما خلفه الانتداب البريطاني على فلسطين؛ وبدعم غربي للضيف الجديد على عالمنا العربي”إسرائيل” والتي وعدتها بريطانيا (استناداً لصك وزير خارجيتها بلفور 1917) بتسليمها التركة وأوفت بوعدها، وأضحت هذه القضية منذئذ مصدر زعزعة وعدم استقرار أمن المنطقة العربية برمتها ما أفضى إلى عرقلة تطور نمو دولها المستقل اقتصادياً وسياسيا.
كما يكتسب الكتاب أهميته في ضوء الأحداث التي وقعت في الولايات المتحدة ربيع العام الجاري إثر مقتل المواطن الأمريكي من أصل أفريقي جورج فلويد الذي لفظ أنفاسه خنقاً تحت ركبة رجل شرطي أبيض في الشارع أمام الملأ لمدة تقرب من عشر دقائق في مدينة مينيا بوليس بولاية مينيسوتا، وهو الحادث الذي فجر بدوره سلسلة من الاحتجاجات الكبيرة أمتدت إلى معظم الولايات الاخرى؛ كما أمتدت إلى البلدان الغربية حيث لا تخلو من دلالات أعمال تحطيم تماثيل رموز التفرقة العنصرية وتجار الرق والاستعمار ليس في الولايات المتحدة فحسب؛ بل وفي استراليا وعدد من الدول الأوروبية وبخاصة بريطانيا، وهؤلاء لم يرحلوا دون اعتذار في الحقبة التي يتناولها الكتاب جراء ما أقترفتهم أيديهم بحق الإنسانية والشعوب المستعمرة فحسب، بل المدهش بأنهم كُرموا بتماثيل تخلدهم في بلدانهم وهو عار مضاعف، وجرى التنديد الرسمي بتكسيرها وتوعد الفاعلين.
والكتاب الذي بين أيدينا يقع في عشرين فصلاً، وقد جاءت عناوينه كالتالي على التوالي: الاعتذار من منظور القانون الدولي (للباحث ريتشارد بيلدر)، الاعتذار والعدالة والاحترام (للباحث جانا تومسون)، المظلومية التاريخية والنظرية السياسية الليبرالية (للباحث مايكل فريمان)، الاعتذار .. تحليل عبر الثقافات (أليسون دنس رينتان)، خارطة طريق لسياسات الاعتذار (للباحثين: جين مارك كوايكود وجين مارك)، عند ما يكون الأسف كافياً – إمكانية الاعتذار عن الرق في نطاق محلي (إليانور برايت)، الجامعة والعبيد – الاعتذار ومعناه (ألفريد بروفي)، دور الاعتذار في المصالحات الوطنية : نحو مؤسسات جديرة بالثقة (بابلو دي جريف)، الصراع مع الماضي – الاعتذار وشبه الاعتذار وعدم الاعتذار في كندا (مات جيمس)، الاعتذار والمصالحة في اتفاقية وايتانجي لعملية التسوية في نيوزلندا – اعتذار الدولة في ظل الهيمنة الامريكية (مريديث جيمس)، اعتذار الدولة في ظل الهيمنة الامريكية ( كارلوس أ . بارودي )، “أنقذنا من الخطيئة الأولى” – اعتذارات بلجيكا لرواندا والكونغو بول كيرنتس)، ألمانيا تواجه تاريخها الاستعماري في ناميبيا – الأسف يعتريه غموض شديد (ليونارد جامفا)، كلمات تنتظر اجراءات رأي النخبة الافريقية في اعتذارت الغرب (ليونارد جامفا)، الاستعمار والاستعباد وتجارة الرق – رؤية هولندية (بيتر بير)، هل تواجه اليابان ماضيها؟ حالة اليابان مع جيرانها (اليزابيث س. دال)، اعتذارات الفاتيكان .. تجربة البابا يوحنا بولس الثاني (مايكل ر . ماروس)، إعادة النظر في اعتذارات الشركات – المال والاحتيال القائم على نظام الفصل العنصري (بوني ابيهاوه)،الاعتذار والحرب على الإرهاب (للباحثين: مارك جيني ونيكلاوس شتاينر)، السلطة الرابعة وحالة الحرب على العراق – اعتذار أم دفاع عن الموقف (جوناثان هـ . ماركس).
وسنقتصر هنا على تناول بعض الفصول العشرين المهمة التي تتناول شروط الاعتذار ووضع معاييره الفعلية على مشرحة تحليل الباحثين كل حسب تخصصه في الجانب الذي اختاره، والعلاقة بين الجاني والضحية قبل وأثناء زمن الاعتذار.
وحتى اليوم مازال عدد الدول التي قدمت “اعتذاراً” عن ماضيها الاستعماري محدودا ويشوبه الالتباس؛ فلم تقدمه كوثيقة رسمية بلا غموض بحيث يترتب عليها – كما يفترض – في القانون الدولي التزامات بتعويضات مالية لحجم الأضرار الاقتصادية والنفسية جراء ذلك الاستعمار الطويل والنهب المنهجي لثروات شعوبها ومصادرة سيادتها وشخصيتها الاعتبارية وغيرها ما عرقل تنميتها المستقلة.
وهنا فإن بعض أبحاث هذا الكتاب عنيت بأن تناقش مدى قيمة تلك الاعتذارات اللفظية الخاوية المضمون عن المساءلة القانونية الفعلية، أو نوع الاعتذارات التي لا يترتب عليها إلزام الدولة الاستعمارية الفالتة من العقاب جبر ضرر الدولة المتضررة، سواء أكانوا من مواطنينها، كالاميركيين السود في الولايات المتحدة وغيرها، أو شعوب البلدان الأخرى.
وفي رأينا فإن من بعض تلك الجروح النفسية الخطيرة الغائرة التي تركها المستعمر بلا حل ؛ التقسيمات والتسويات الطائفية بين مكونتها والتي كان لها دور – كما يشهد مؤرخو الغرب المحايدون – في تأجيجها وفق مبدأ “فرق تسد”: عرب وأمازيغ، مسلمون وأقباط، مسلمون بمختلف طوائفهم في مواجهة مسيحيين بشتى طوائفهم ( لبنان نموذجاً )، سنة وشيعة إلخ . وترتب عليها بعد الاستقلال تقاليد وأعراف لم تجتث من جذورها ويصعب محوها بلا رجعة، بل لطالما عانت منها وما برحت تعاني منها معظم بلداننا العربية تبعاً للمستفيدين في الداخل والخارج من فتح تلك الجروح القديمة أو النائمة والتي لا تكاد تلتئم حتى يُعاد فتحها من جديد.
في الفصل الأول اتخذ الباحث بيلدر ما خلصت إليه “لجنة القانون الدولي” حول مسؤولية الدول كأساس لمرجعيته في دراسته. وفي الفصل الرابع أستعرض الباحث أليسون رنتلين الطرق المختلفة التي يمكن بها الاعتذار، وكذلك السُبل المختلفة لتفسير الاعتذارات لدى الضحايا؛ ففي بعض ثقافات الشعوب يكفي مجرد الاعتراف بالخطأ كاعتذار رسمي، أو بما يحفظ ماء وجهه. وفي ثقافات اخرى فإن الاعتذار “الكلامي” دون تعويضات ليس له قيمة.
وفي الفصل الخامس تناول الباحثان مشكلة السعي إلى الغفران لما لا يمكن غفرانه . وفي الفصلان السادس والسابع عالج فيلمنج وبروفي مسألة مدى حق المواطنين من أصل إفريقي المطالبة باعتذارات عن جرائم ارتكبت بحقهم وحق أجدادهم في الماضي.
أما الفصلان الثاني الذي جاء تحت عنوان “الاعتذار والعدالة والاحترام“ والعاشر الذي جاء تحت “الاعتذار والمصالحة” فقد قام الباحثان جانا تومسون ومرديث جيبس بدراسة وتحليل الجرائم التي اقترفها المستوطنون البيض الغزاة في أستراليا ونيوزلندا بحق السكان الأصليين.
وإذ أتخذ الأول من أستراليا نموذجاً لبحث المطالب الفلسفية للاعتذار السياسي الحقيقي، فإن الثاني سلط الضوء على محاولة الملكة إليزابيث الثانية ورئيس نيوزلندا للاعتذار للشعب الماوري، واتخذ من هذه المحاولة – رغم قصورها – نموذجا يمكن الاحتذاء به في الدول الغربية في كيفية التعامل الإنساني مع المهاجرين واللاجئين الذين وفدوا من تلك البلدان التي استعمرتها تلك الدول.
وهذه قضية في نظرنا ما فتئت تتفاعل وتكتسب أهميتها في ضوء الأعمال الإرهابية التي مازالت تشهدها أوروبا منذ مطلع العقد الجاري، وزحف اللاجئين الفارين من مناطق الحروب والتوتر الإقليمية وانعكاسها على تعقيد مسألة الاندماج. وفي وقت كانت فيه أغلب الدول الغربية حذرة ومترددة تجاه دمج الوافدين من بلدان مستعمراتها السابقة منذ أواخر الثمانينيات؛ فإن كندا تبنت سياسة رسمية للتعددية الثقافية منذ 1988. وأخيراً فإن الفصل الحادي عشر يتناول فيه كارلوس بارودي مسألة القصور في “لجان الحقيقة” في أمريكا اللاتينية تجاه فظائع أنظمة الانقلابات العسكرية خلال النصف الثاني من القرن العشرين باعتبارها تتم بمعزل عن مسؤولية الولايات المتحدة القانونية لتورطها في التخطيط لتلك الانقلابات ودعمها؛ وهي مسألة لا تبعد عنها تورطها نفسها في دعم دول افريقية وشرق أوسطية ومن بينها إسرائيل.