في حب الكراهية المقيتة
– أنفك أعقف، طويل، ضخم، لا يقاس، ولا نهاية له!
– أنفك عريض، شاسع، وفسيح، مثل القرنبيط!
يفتح هذا الحوار الكوميدي “الطفولي” أجنحة للضحك حول صديقين تربطهما علاقة وطيدة وعميقة –أو هكذا يبدو- إلى تصاعد الحدث، حين لاحظ أحد الطرفين أن أنف الآخر، الطويل، مبلل في كأس الشراب، ومازح صديقه الذي رأى في المسألة تنمُّراً على قِصر أنفه.. ثم بدأت المعركة!
هل يبدو الأمر مبالغة؟ الواقع أن هذه الفكرة قدّمتها الإسبانية ماروشا بيلالتا في نص “قضية أنوف”. وتصدير هذه القضية “التافهة” مقصود به استقراء القضايا الشبيهة في حياتنا العامة، للإشارة إلى أن كل النار من مستصغر الشرر، تقوم لشدة بساطتها في أي مكان بالعالم، وفي أي توقيت، تبدأ بين أفراد/ أيدولوجيات، وتنتهي بكوارث ملموسة، لا يصدق العاقل شرارتها الأولى في الغالب! ومراجعة سريعة لأحداث كبيرة تكشف كيف أن حدثاً أولياً هشاً، مثل نقرة إعجاب –أو تجاهل- على صفحات التواصل الاجتماعي، تثير الحفائظ، حتى تتحول إلى معركة يتداخل فيها أطراف آخرون متضامنون، فكيف بتصادم الأفكار الكبيرة المتضادة الأخرى؟
جُسدت هذه الفكرة في العرض المسرحي “اترك أنفي من فضلك” التي عمل المخرج المصري إسلام أمام على إعادة تشغيلها بنكهة محلية، تناسب الذائقة العامة، المدرج تحتها أي فئات عمرية وأي مستويات ثقافية، عبر شخصيتي بيسو وسيسو –روبيرتو وريكادو في النص الأصلي- الصديقين المرتبطين ببعضهما منذ الصغر، ونتيجة هذه العلاقة الوطيدة يقرران الشراكة في المنزل، بحيث يتزوج أخو الأول من أخت الثاني، ويعيشان بمعية الجدة والأب، حتى يأخذهما خلاف الأنوف المذكور إلى التقسيم والأحزاب والحرمان من النعم “الطبيعية” التي استحقاها نظير توطيد علاقتهما ببعض، حتى مع الاستعانة بشخصية البطلة في “أليس في بلاد العجائب” كراوٍ محرك ومتداخل مع الأحداث، وشخصية منسجمة مع شخصيات العرض، بأزيائها القريبة من الشكل الكاريكاتوري، وأيضاً لموازنة الحدث السريع الذكي في تنفيذ فكرته العميقة التي تخدع ببساطتها. وربما لذلك أشارت مؤلفة النص الأصلي إلى كونه “مهزلة مأساوية”، تأكيداً على أن كل ما يضحك ظاهرياً، سيحزنك في العمق، حين ترى نفسك وخلافاتك الصغيرة وعداواتك التي تنشأ من سوء فهم، أو قلة صبر، أو قصور في قراءة موقف؛ أسباباً للاستسلام في منطقة مريحة: التسليم بالكراهية، دون عناء البحث في المنطقة المجاورة التي تحتاج إلى جهدٍ البحث حتى وقت أخذ القرار.
والكراهية مرهونة بها المسافة التي تخلق بين طرفين، انتهت علاقة الود – أو لم توجد أصلاً – لتبدأ أشواط إطلاق غرائز الشر، والحقد، والعقد المكنونة في حرية لن تتاح لو كانت الحياة سلاماً بين أشباه روبيرتو وريكاردو.
ولا شك في تطوّر حوار الأنوف الطويلة منها والقصيرة، إلى مستوى آخر، حيث العيوب والنواقص التي يطلقها أي طرفين على الأشخاص ذوي العلاقة متاحة و”مقبولة”، على اعتبار أنها فرصة للتفريغ والتحرر من كل أمر كتم من قبل، أو يسمح بقوله في هذه الأحوال! ولنقِس هذا على الحوارات المتشابهة على نمط: أسنان زوجتك معوجة/ أختك نحيفة كالشعرية/ حماتك قنبلة/ عمتك برخينيا دوروتيا ليست عذراء! وحتى لو أثار هذا الحوار الضحك لدينا لوقت قصير، سيكون مألوفاً أيضاً وشبيهاً بما قد يكون مر علينا لخصمين تجمع بينهما علاقة واقعية، أو افتراضية، أو حتى ندين في مناصب سياسية على الصفحات الاجتماعية المعروفة التي تكشف لعموم المتابعين مستوى التفكير والأسلوب المتبع في التنفيس عن العداوات.
فالفرد -وقت الكراهية والغضب- لا يكون كما في الأوقات الأخرى التي لا يتعرض فيها لضغط أو معاناة، تظهر القناع الذي يتمسك به حفاظاً على الصورة التي “يحب” أن يصدرها عن نفسه. ورغم عدم تعرض النص والعرض معاً لتاريخ الشخصية النفسي، المليء قطعاً بأثقال غير مرئية تهب خارجة من أول احتكاك، نتيجة خبرة سابقة وذاكرة تحتفظ بالسلبيات رغماً عنها أو بإرادتها، لذا يجب الأخذ في الحسبان أن الجميع يحمل كمية خذلان وألم ومعاناة بنِسب، يتفنن العقلاء في السيطرة عليها، عسى أن يفلحوا في ضبط النفس.
ولن يتوقف الأمر عند الطرفين المختصمين، ومن ذهب للتحزب مع طرف ضد طرف بإرادته، سيتنقل إلى مستوى آخر، كما أوضحه النص في امتداد النزاع لطفلين من المشاهدين بتقنية “المسرح داخل المسرح”، في عدوى تبادل الشتائم: غبي/ أهبل/ بهيم/ حيوان/ دودة/ ضفدعة، وهو يمثل انعكاس حالة الصديقين، وأيضاً إشارة لتساوي مستوى التفكير عند الصغار والكبار معاً، لكي يتمكن الغارق في الكره والعداوة من رؤية نفسه بوضوح! وأيضاً من هذه الحالات، تخرج شخصية محبة للسلام، مثل “ليو” الذي لا يؤمن بالحروب، ولا بالانقسامات، ولا بالتمييز العنصري بين البشر، وفي حكمه “الطبيعي” على قضية روبيرتو وريكاردو في أنه ليس هناك فرق بين الأنوف الطويلة والقصيرة.
ما المانع أن يستمتع الجميع بحياته، ويتقبل الآخر كما هو بلا تغيير؟ هل الكراهية تجعل الفرد ذا شخصية أقوى؟ أكبر؟ مهاباً من قبل الآخرين؟ هل هو تنفيس عن إحباط آخر في منطقة مخفية عن العلن؟ أم إن الكراهية ووجود أعداء يصنفون تحت بند “الحسد”، جزء من المباهاة أن ثمة مميزات في الشخصية لم يحظ الآخرون بها، فتصبح مدعاة للكراهية والعداوة؟ ومنطق “ليو” في “قضية أنوف” غير المتحيز لا يلقى سمعاً، ولا يروق لذائقة القطيع المستسلم لفكرة سهولة إشعال العداوة المعتاد مع أول خلاف، لذا فإن أمثال “ليو” لا مكان لهم في الواقع، كما اعتبروه في النص عدواً، وقتلوه لرفضه أن ينساق لأحد التكتلين، هو كذلك في الواقع المعاصر؛ إما أن تكون ضمن، أو تصنف عدواً، وفي أفضل الأحوال ستكون على الهامش، كما رمزية “أوليسس” الأخرس، وهو الشخصية الوحيدة التي تحاول تفادي نشوب حرب بين العائلتين، وأيضاً وجود شخصية الحانوتي/ صانع التوابيت في النص، مهمة، لأنها تعطي ثقلاً درامياً للمستفيدين من سقوط الناس في فوهة الخلاف والموت، مستعملين بذلك نفس الأدوات: “أبيع الأذى.. أذى عنصري.. أذى ديني.. استعدوا للحرب.. معي كل العناصر اللازمة: العقد/ الأحقاد/ الثأر/ العناد. لذا تحوله المؤلفة إلى بائع متجول لزبائنه أينما أرادوا، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء القدوم! وهو يحاول كسب رزقه/ تحقيق مصلحته الشخصية على حساب الآخرين، الذين يغذون فيه السيطرة، وتغذية شهوة بشرية من حيث لا يعون.
ولا بد أن هذه الشخصية تعمر طويلاً عن عمر المأسوف عليه “ليو”! بينما حسابات الدين تتجه إلى منطقة أخرى، تبدو عادلة في الظاهر، ولكنها تحزُّب آخر معني بمعايير مختلفة. فالقسيس يؤكد أن مسألة طول الأنوف أو قصرها هي مسألة نسبية، المهم هو الانتماء للحزب الصالح، أو الطالح، ووحدة القياس هنا متباينة، ولا يمكن أن تكون ثابتة، لذلك نعود إلى المربع الأول في تحديد الخير والشر، الحب والكراهية.
ورغم الكوميديا السوداء التي طغت على عرض “اترك أنفي من فضلك”، واعتماد المخرج على فكرة النص الأصلي، دون الاستعانة بكامل الشخصيات التي ربما ستفرع الفعل وتؤثر على إيقاع العمل الكلي، إلا أنه نجح في إشاعة جو من البهجة، رغم جدية القضية، دون المساس بأي تفصيل يضيف للعمل. من البديهي أن ينطلق فكر كل من سيشاهد العرض ويذهب إلى العمق الكبير المعني بالدول والأفراد المسئولين عن الأحداث الكبيرة، وهو أمر صحيح، على الأقل حسب وجهة نظر ماروشا بيلالتا في تناول قضية الخلافات شديدة التفاهة وتحولها إلى قضايا كبيرة، بفضل مغذيات الكراهية من أفراد ودول مستفيدة من تعميق الصراع.
لكن، ماذا عن العمق قصير المدى جداً؟ العمق المعني بعلاقات البشر، كما صورة العرض، واستبدال الكراهية بالحب، حتى وإن بدا الأمر ثقيلاً وصعباً في البداية، لكن يقيناً سيصبح العالم مطمئناً وناعماً بالسكون، دون ادعاء مثالية أو تمثيلها. وليس صحيحاً ولا منطقياً ما كتب عن أن هذا العرض يرسخ التنمُّر في عقول الأطفال –باعتبار أنه مسموح لكل الفئات العمرية بمشاهدة العرض، وأيضاً لشكل الدمى الذي يوحي بقابلية أن يكون هذا عرض أطفال أو ناشئة-، ذلك أن العرض لم يخلق مشكلة ويطلقها بلا حلول، وأيضاً ليس بمقدوره قفل العرض بنهاية سعيدة تقليدية تناسب عروض المسرح المدرسي ومسرح الطفل، ذلك أن الحياة الواقعية بعيدة عن تقديم نهاية تكافئ وتعاقب، الخيرين والأشرار، حسب التصنيف المتغير كل مرة في زي مختلف! لذا، فإن ريكاردو وبيسو ومعهما ليو، وكل العناصر التي قدمت على هذا النسق، ليسوا شخصيات مسرحية جسدوا فكرة فنتازية، بل هم أشخاص موجودون بالقرب منا، ونحن أيضاً نشكل هذا النسيج في هيئات مختلفة في الهويات، والشكل، والدين، والمجتمع، يمثلون أفكارهم، ومعطياتهم، وبيئاتهم، وكلهم على حق، ومنطقيون فيما يدعون إليه، إلا فكرة استيعاب الآخر وتقبله ببساطة كما هو بلا تغيير، تماماً كما قال ليو في قضية أنوف: هناك مكان للجميع في هذا العالم، أتفهمون؟
• كل التنصيصات الموجودة مستلّة من نص “قضية أنوف”، تأليف ماروشا بيلالتا، ترجمة وتقديم: د.زيدان عبدالحليم زيدان، مراجعة د.رضا غالب، من المسرح العالمي، العدد السابع عشر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. يوليو 2011م