في باحة أحد المعارضِ، وتحديداً في متحف البحرين الوطني، نادتني لوحة مفعمة بالأسى، مكتظة بالأحمر القاني والسواد المصوّغ من هيئة ملاكٍ يجثو على ركبتيه ضاماً جناحيه وخاضعا لعذاباته.
ليس بالضرورة أن تكون محللا نفسياً لتفهم ماوراء هذه الألوان من مونولوج وصراع نفسي أو حكاية صغيرة عبقها الخيال الشجي. وفي الوقت ذاته قد تملك شعوراً استثنائيا بلوحة كأن تذكرك بشيء عالق في قلبك. ولعل الذكرى التي نقرت العقل كانت ملحة لأستذكر مروراً بأخيلة الألوان إلى قصة رسام قديمة، كان ذائع الصيت بما يرسم من لوحات فريدة ويقيم من معارض ناجحة، وثيمة لوحاته كلها سيدة جميلة تمتلك نفس الملامح في كل اللوحات، بيْد أنها مختلفة الإيماءات في كل واحدة منها. فتنة اللوحات مستمدة من عينين ساحرتين وشفتين مكتنزتين تجعل المتفرج عليها يسأل نفسه مستدركاً، ولكن ماذا لو لمس الرجل قلب امرأة جميلة واستشف أنه خاوي العاطفة، وتحسس عقلها بأفكاره فوجده أجوف؟
ملامح الحسناء التي كانت تكتسح اللوحات، صارت حديث الساعات ومبعث شغف المتفرجين، إلا أنهم ذهلوا أن المرأة هي زوجته المتشوهة لحريق قديم نشب في بيته فخطف بنيرانه نضارة وجهها وحولها إلى تقاسيم تكسوها الحروق الخالدة. سألوه برعونة وصراحة جاسرة، هل مازلت تحب هذه المرأة؟ وهل هي الإلهام لريشتك؟ أجابهم ببديهية: زوجتي هي من آثرت أن تحافظ على مخزون لوحاتي فيما كان بيتي يحترق، وتحملت سياط ألسنة اللهب لتأخذ كل لوحاتي خارج البيت وكان نصيبها أن طغت النار على جلدها الرقيق. لا أرى فيها إلا المرأة التي تزينت بالتضحية والتي سأبقى أحبها ما حييت.
كل روح في هذا الكون البديع هيأها الله لاستقبال الجمال، ولكن لكل روح أيضا نظرة نسبية ومعايير مختلفة حد الدهشة! منا من يبحث عن الجوهر بنفسية حساسة وشفافة ومنا من يكتفي بالظاهر ويتبع خطى المادة والمظهر مهما كان هشا أو يجنح للضعف. لكنّا مهما قرأنا أو أدركنا مشاهد حياتية عن التعاطف الإنساني الذي يتصف به بعض البشر، فإن الوصول إلى فهم خالص لهذا الشعور الأصيل يستدعي وعياً وتجربة ورؤية حساسة لا يبلغها جميع الناس.
ربما لأن الطريق إلى التعاطف يبدأ بالشفقة مرتكزًا على الحب الأساسي للإنسان وللحياة حتى يصل المرء بذلك إلى قيمة أخلاقية من درجات الخير والجمال تتمثل في الرقة، التي تتجسّد من خلالها رؤيتنا للآخرين و-كأنهم نحن-. إذْ أنني إذا كنت أتعاطف معك، فمعنى ذلك أني أعيش موقفك وأتمثل كينونتك بأكملها وأتلمس تفاصيل حياتك؛ ليس على سبيل التقمص الخيالي فقط وإنما على مستوى الوعي العقلي بالتجربة الإنسانية، وبذلك تتكشف لي شخصيتك وألوان تشكيلك الجوانيّ، مما يمكنني من فهم موقفك ورود أفعالك ودوافعك. كما يقول فرويد “التعاطف نوع خاص من كشف الهوية؛ حيث نرى أنفسنا في أشخاص آخرين ونجعل تجاربهم وسلوكهم والمواقف التي يعيشون بها جزءاً من نظرتنا إلى ذاتنا” فهل نستطيع أن نصل إلى ذلك؟
يختلف نيتشه مع فرويد ويرى الشفقة لا تقتصر على مضاعفة بؤسنا، بل إنها تقود أيضًا إلى انتقاص الكرامة؛ فالشفقة – أو حتى الرأفة – على إنسانٍ آخر تمنح المُتلقي تأييدًا ضمنيًّا للظرف الذي أثار الشفقة في المقام الأول “لقد تجرأ الناس على وصف الشفقة بالفضيلة! بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من ذلك بجعلها عين الفضيلة؛ أساس ومصدر كل الفضائل، لكن لا ينبغي أن يغيب عن أذهاننا أن هذا المنظور مأخوذٌ من فلسفة عدمية نقشت نفيَ الحياة على درعها. كان شوبنهاور مُحقًّا في رأيه بأن الشفقةُ تنفي الحياة، وتجعل منها شيئًا جديرًا بالنفي. إن الشفقة ممارسةُ العدمية. مرة أخرى: هذه الغريزة المُثبِّطة والمُعدية تتعارض مع الغرائز التي تعزز قيمة الحياة وتحافظ عليها؛ إذ إن الشفقة إحدى وسائل زيادة الانحطاط حينما تُضاعفُ البؤس بقدر ما تستبقي كلَّ شيءٍ بائس. إنها تستدرجُ الناس إلى العدم”.
في تصوراتنا التقليدية، ربما نرى في حبّ الذات خطيئة، وأن المماراة بمحبة النفس ذنب. على الرغم من إقرارنا بأن فاقد الشيء لا يعطيه، لكننا سلطنا حواسنا لإيثار حبّ من حولنا على ذواتنا، وللانصهار والتماهي في علاقات يتلاشى معها إحساسنا بأنفسنا متناسين أن لأنفسنا علينا حبّ.
يقول الروائي النمساوي ستيفان زفايغ في روايته -احذر من شفقة الحبّ-؛ “الشفقة قد تكون في بعض الأحيان أشد ضرراً من الإهمال واللامبالاة”. الرواية بعنوانها الكثيف والتي وزعت منها أكثر من 140000 نسخة في ألمانيا؛ بدأت برسم ملامح البطل الضابط “هوفميلر” الذي قرر أن يسرد حكايته ويكشف عن سر الوسام الذي تقلده بسبب شجاعته على مسامع ذلك الكاتب الذي التقى به في أمسية حفل ما. بدا الضابط الوسيم مرتاباً يلوذ بالغموض الحزين وراء قصة حب وخيبة ومرارة سببها قدر يقوده إلى بيت رجل ثري مثقف.. محب للموسيقى وحياته قد تبدو لمن يطالها بصره سريعاً شبه كاملة. لولا أن لديه ابنة صبية حسناء كسيحة تعزف الموسيقى بشجن خالص.. تتحدث برهافة عن أفكار قاسية أو بإرعواء عن مشاعر هشة! تبدو كلوحة بعنوان “المرأة الحلم”. يكتشف الضابط الشاب أنها مصابة بالشلل ولكن الأطباء يقولون إنها قد تتشافى مع الوقت. وهكذا تدخل “أديث” الناعمة إلى حياته من باب الشفقة؛ لقد أشفق على هذا الجمال! وأصبح يتردد على البيت الفخم مرحباً به من الجميع يدفع كرسيها المدولب ويستمع إلى صوتها العذب وأفكارها وما يلبث أن يتقدم للزواج منها من دون دراية! ثمة شكل آخر للشفقة يرسمه زفايغ ويختلف عن الشكل المألوف لدينا أو يتبدى من زاوية أخرى أشبه بما قاله إبراهيم الكوني “لأن الحبّ عدو الشفقة.. لأن الحبّ يحيي ولكن الشفقة تميت”!
تتساءل وأنت ترقب “أديث” و “الضابط”: هل كان تماس أرواحهما خبطة عشواء من صياغة الظروف؟ هل هو وليد منفعة؟ أو هو نهاية لأسباب خفية قاهرة؟ هذا الشعور الذي ألفه تجاهها لم يتخذ قالباً معروفاً مما يجعلك تتخبط معه تقوّس شفتيك وأنت تقرأ ما ينتابه من شعور وما يحدثه من ردود أفعال.. تذبل جبهتك كلما قلبت صفحة وکأنما زفايغ يرتدي بدلة طبيب جرّاح وراء الرواية إذْ يغوص في الخفايا النفسية لدى الضابط والشابة الحالمة ونظرتهما للحب.. تتمعن وهو يصف استمالة والد الفتاة الحالمة وهو يستميل الضابط، وكيف يتحوّل بفعل قسوة الحياة من شاب متغطرس وأرعن لكهل يفرط في تدليل صبيته المريضة ويتعلق بحبال الأمل البعيدة ليراها معافاة سعيدة.. تقرأ بريبة وقلق كيف سيحسم الضابط علاقته بها .. كأنك تضع ضمادة كبيرة على روحها النازفة! كيف سيدفع الشاب ضريبة سجيته أو أتعاب اندفاعه أو فضوله.. هل سيحفر قبر أديث حين تظن أنه تملص من حبه لها أو قزمها كأنثى؟ أم أنه استفاق من ازدواجية شعورية صورت له إحساسه بالشفقة كالوقوع بالحبّ؟ أسئلة لن تنتهي سترافقك بعد ختام الأحداث..
هل يمكننا الدخول ببساطة تحت جلد الشخصيات لفهم ما يؤرقها من البؤس والإحباط والذل والغيرة والألم واليأس والضياع والكبرياء والنشوة والعناد والعنف؟ هل نتمكن من تمييز ما تبرزه الشخوص خصلة من خصال وأنماط سلوك مرتبطة بالفطرة أو بالبيئة أو بالأخلاق؟ هل عدم اتخاذنا لقرارات مهمة كلفة فادحة تفوق ثمن القرار نفسه؟ كيف ندوزن بين شعورنا بالحب والشفقة والانهيار والصرامة وفق مساورة لا تؤذينا ولا تؤذي من حولنا؟ هل نضحي بحياتنا وأحلامنا بغية تجنب إيلام الغير أو خفض طاقاتهم للحبّ والعيش؟ هل يمكننا بالفعل ضبط إيقاع قلوبنا بلا إفراط ولا تفريط؟