عندما يخطىء سائق السيارة قد ينتج عنه حادث مروري، وعندما يخطىء المهندس فلربما يؤدي إلى انهيار المبنى، وعندما يخطأ الطبيب قد ينجم عنه موت المريض، وعندما يخطىء المصرفي قد يتسبب في كارثة مالية، وهكذا عندما يخطىء السياسي قد تحدث ثورة عارمة في البلد، وعندما يخطىء حارس المرمى قد يؤدي إلى خسارة الفريق … إلخ، ولكن دعونا نتخيل معًا كيف تبدو الصورة حينما يخطىء المعلم؟
الجواب: فساد أمة!
دعونا ننطلق من هذه المقدمة لنؤكد على حاجتنا الملحة لمشروع تنويري يحمل عنوان “صناعة المعلم” للقرن الحادي والعشرين. فيا ترى أيّ معلم نحتاجه؟ هل هو ذاك المزوّد بالثقافة التكنولوجية فقط؟! أم ذاك الذي انفتح على الثقافة التكنولوجية وتمكّن من توظيفها بذكاء في تدريب الطلبة على اكتساب المهارات والاتجاهات السليمة والقيم العليا في الحياة؟
سأسلط الضوء على بعض المفاهيم لتتضح الصورة أكثر عند الحديث عن صناعة المعلم للقرن الحادي والعشرين.
أولًا ـ التعليم والانتقال من ثقافة الإيداع إلى ثقافة الإبداع:
ثمة موضوع لطالما كان ولا يزال يؤرقني كثيرًا، سواءً عندما كنتُ معلمًا أو الآن بصفتي ولي أمر أتابع الشؤون الدراسية لأبنائي. ولا أخفي عليكم بأنني أتخيل واقع التعليم عند زيارتي لأي مصرف أو بنك، وهو ما عبر عنه المفكر التربوي البرازيلي باولو فريري بـ “التعليم المصرفي أو البنكي”، وأتساءل في نفسي: إلى متى ونحن مستغرقون في وحل التعليم المصرفي أو البنكي “ثقافة الإيداع”؟ أما آن الأوان للولوج إلى التعليم الإبداعي “ثقافة الإبداع”؟
للأسف الشديد، أنظمتنا التعليمية في الوطن العربي أشبه ما تكون بمصنع لإنتاج «العقول المعلَّبة». ربما الحالة هنا أشبه ما تكون بالسلع والمواد الغذائية الفاسدة التي تنتهي فترة صلاحيتها في غضون عام أو عامين مثلًا. إلا أن الخطورة تتمثل في جعل عقول الطلبة معلبة ومجمَّدة ومنتهية الصلاحية مدة اثني عشر عامًا (أي مدة المراحل التعليمية لكل طالب وطالبة).
ثانيًا ـ التعليم بين غبار الشهادات وحتمية المهارات:
ثمة موضوعٌ فرض نفسه مؤخرًا على المشهد التربوي والتعليمي، وهو “مهارات المعلم للقرن الحادي والعشرين”؛ بوصفه مرتكزًا أساسًا لتطوير التعليم وتحسين مخرجاته لتتلاءم مع متطلبات سوق العمل، وهو ما دفع بالرئيس الأميركي دونالد ترامب في شهر يونيو الماضي بالتوقيع على أمرٍ تنفيذي بتوجيه التعليمات لفروع الحكومة الفدرالية، بالتركيز على المهارات بدل الشهادات الجامعية في اختيار الموظفين الفدراليين.
ومع تنامي وتيرة التغيرات المستمرة والدراماتيكية التي يشهدها العالم، خصوصًا بعد جائحة كورونا (كوفيد ـ19)، فقد أصبح دور المعلم مهمًا جدًا لتيسير وتوجيه وتمكين الطلبة لاكتساب المهارات المطلوبة، بُغية الوصول إلى فردٍ قادرٍ على التعامل مع متطلبات المراحل اللاحقة لتخرجه من المدرسة؛ سواءً كانت متعلقة بمتابعة تعليمه العالي أم الانخراط في سوق العمل.
تم تحديد مهارات التعليم للقرن الحادي والعشرين والتي يتمحور حولها إطار مراجعة أداء المدارس الحكومية والخاصة بمملكة البحرين الصادر عن هيئة جودة التعليم والتدريب في مملكة البحرين على النحو الآتي: 1ـ مهارة التفكير الناقد 2ـ مهارة التواصل والعمل الجماعي 3ـ مهارة الإبداع وحلّ المشكلات 4ـ مهارة القيادة وصنع القرار 5ـ مهارة الريادة والمبادرة 6ـ مهارة التمكن اللغوي 7ـ مهارة لمواطنة المحلية والعالمية 8ـ مهارة الثقافة التكنولوجية.
ولعل المهارتين الأخيرتين (مهارة المواطنة المحلية والعالمية ومهارة الثقافة التكنولوجية) أكثر ارتباطًا بموضوع المقال.
فمهارة المواطنة المحلية والعالمية تعني: قدرة الطلبة على توجيه معارفهم وسلوكهم وقيمهم بمسئولية، وبما يعزز التقارب الفكري بين مكونات المجتمع المختلفة، ويرفع وعيهم بالتحديات العالمية، ويزيد من إسهاماتهم في بناء وتطوير وطنهم بشكل أساس، وتأصيل ممارسات الاستدامة البيئية، والعدالة الاجتماعية، والمساهمة في تكوين توجهات إيجابية نحو المشكلات العالمية، وتقبل الآخر بما يزيد من التقارب الثقافي العالمي.
وأما الثقافة التكنولوجية فتعني: قدرة الطلبة على استخدام التكنولوجيا وأدواتها بفاعلية؛ لصناعة المعلومات أو الوصول إليها، وإدارتها، وتفنيدها ونقدها، ونشرها، مع الدراية التامة بأثر المحتويات التكنولوجية على الفرد والمجتمع.
مثالٌ على ذلك: عندما يوظف الطلبةُ وسائل التواصل الاجتماعي في العملية التربوية والتعليمية.
بطبيعة الحال، ليس الهدف من استخدام التكنولوجيا في التعليم زيادة تحصيل الطلبة للمعلومات، وإنما زيادة قدرتهم وتمكنهم من استخدام المعلومات بأقل جهد وفي أقل وقت وأكثر متعة، فمسألة رقمنة التعليم في المدارس والجامعات تتطلب حتمية تمكين المعلم والمتعلم في بيئة تعلم ذكية.
مع بداية جائحة كورونا (كوفيد ـ19)، أصبحت الثقافة التكنولوجية ضرورة حتمية لا يمكن تجاهلها بالنسبة للمعلمين والمتعلمين وأولياء الأمور على حد سواء، كما أصبح التعلم عن بُعد هو الخيار الأسلم والأمثل نتيجة الظروف الصحية الراهنة، فلا توجد صفوف دراسية وإنما وسائل وتطبيقات التواصل الاجتماعي، كما حلّ البيت مكان المدرسة، وأصبح أولياء الأمور بشكل أو بآخر شركاء إلى حد كبير مع المعلمين في العملية التعليمية التعلمية، مع تحفظنا على (بعض) الممارسات التي جعلت منهم متعلمين ويحلون الواجبات والتطبيقات بدلًا من أبنائهم، مما يستدعي التدخل بوضع أنظمة تقييم وتقويم صارمة تقيس بدقة أداء الطالب نفسه وليس ولي أمره أو أي شخص آخر ينتحل شخصية المتعلم.
(البعض) تطرف وذهب بعيدًا في مطالبته بإلغاء التعليم الحضوري إلى المدرسة حتى في مرحلة ما بعد كورونا، بحجة أن التعلم عن بُعد يفي بالغرض، ولكننا في الوقت الذي نميل إلى تبني الوسائل التقنية، إلا أننا نؤكد على أهمية التعليم المدرسي الانتظامي، خصوصًا لطلبة التعليم الأساسي (المرحلة الابتدائية)؛ لأن مهمة التعليم ليست فقط إدخال الطلبة في عالم المعلومات والمعرفة وتدريبهم على بعض المهارات المطلوبة في سوق العمل ـ كما يقول المفكر د.علي فخرو ـ وإنما المطلوب أكثر من ذلك بكثير، فالمدرسة يجب أن تكون أداة تغيير وتجديد ثقافي وشحذ وبناء التزامات وطنية وقومية وإنسانية. وهذا لا يمكن أن يتم إلا من خلال عمليتي تفاعل إبداعي بين الطالب وزملائه، وبين الطالب ومعلمه، فالمعلم لا يستطيع أن يقوم بتلك المهمات من خلال التواصل الإلكتروني، وإنما في الأساس من خلال التفاعل الخلاق في الصف مع تلاميذه.
ثالثًا ـ التعليم حق أصيل من حقوق الإنسان:
التعليم حق أصيل من حقوق الإنسان، وهنا يأتي دور المعلم الإنسان في ترسيخ مبادئ حقوق الإنسان في الفضاء المدرسي، من خلال توظيف المبادئ وما يطلق عليها بالقيم المدرسية عبر التطبيقات والممارسات المدرسية اليومية من خلال الأنشطة الصفية واللاصفية. ويتلخص دور معلّم القرن الحادي والعشرين في الارتقاء بمنظومة التعليم وإيجاد واقع تعليمي عصري ومتطور وبرؤية إنسانية كونية، ليس فقط من خلال تزويد المتعلمين بمجموعة من المعارف والمعلومات، وإنما بتدريبهم على اكتساب المهارات والقيم الكونية.
زبدة القول، لا بد أن يقود مشروع صناعة المعلم للقرن الحادي والعشرين، المجتمع إلى التعلّم الحقيقي الذي هو حق أصيل من حقوق الإنسان، وذلك لن يتحقق من غير العدالة والمساواة وإتاحة فرص التعلّم الذكي للجميع بلا استثناء، ذلك أن التعليم التقليدي القائم على الحفظ والتكرار وحشو المعلومات هو الوجه الآخر لتعليم فاسد وثقافة الشهادات الورقية بلا مهارات؛ لأن بناء العقلية الناقدة للمتعلم هو أساس أي تغيير في التعليم، فالمشكلة ليست في محاولة تطوير التعليم، وإنما في قدرتنا على تفكيك منظومة التعليم الموروثة، وأهم تحديات تطوير التعليم هو استبدال ثقافة التمدرس النمطي بثقافة التعلم الحقيقي الذي يشبع فضول الطفل ويسهم في تنمية الشك الإيجابي لديه عبر توظيف التقنيات ووسائل التعليم المشوقة والحديثة.