باب جديد طرقته الأستاذة فوزية مطر على خلاف المعتاد، ونقلة موفقة، حيث صدر لها كتاب عن “دار فراديس للنشر والتوزيع” بعنوان (نساء)، تضمّن مجموعة قصص قصيرة تروي حال نساء البحرين ومعانـاتـهن، والظلم الذي يتعرضن له من قبل أزواجهن، وعملهن من أجل إعالة أسرهن. القصص أو الحكايات الواردة في الكتاب هي من الواقع المعاش في زمنٍ ما، قبل الطفرة النفطية، ولو أن هذه المعاناة مازالت مستمرة حتى يومنا هذا وإن بنسبٍ أقل، بفعل تطورالمجتمع وزيادة منسوب التعليم وأثره على نسبة الوعي، ومن ثم القوانين المصاحبة لهذا التطور، وعلى وجه الخصوص ما يتعلق بحقوق المرأة .
اختيار الكاتبة لهذا العنوان (نساء)، له مدلول واضح وصريح من خلال تناول وضع المرأة تحديداً في معادلة المجتمع، والدور الذي تقوم به على مختلف الصعد على الرغم من وضعها المأساوي والفقر المدقع الذي عاشته تلك الأسر، مما اضطر المرأة للعمل في المنازل أو بيع بعض المأكولات لمساعدة الأسرة.
ما يميز تلك الحكايات هو الأسلوب الذى صِيغت به، أسلوب ينمّ عن معرفة دقيقة بواقع حياة المرأة في ذاك الزمن، وما لحقها من عسف وغبن وحيف وتـهميش وفرض الوصاية والعنف المنزلي وشحّة المدخول المادي للأسرة.
ثلاثة عشر حكاية في هذا الكتاب الشيّق ترويها فوزية مطر، متطرقة لأولئك النساء وتفردهن وإصرارهن على متابعة حياتـهن رغم قسوة الحياة وضنك المعيشة، وقلة الحيلة في معالجة أوضاعهن، والأمراض المصاحبة للفقر والجوع، نساء كافحن بجدارة من أجل عيش كريم لعوائلهن .
في هذا الكتاب فتحت فوزية مطر كوة في جدار الوعي لدى الجيل الجديد لتضعه في صورة ذاك المجتمع، ليتعرفوا على مقدار المعاناة التي عاشتها النساء في تلك الحقبة من تاريخ الوطن وما قدمنه على حساب صحتهن في مسيرة أشبه ما تكون بالمشي على الجمر، كل ذلك في سبيل العيش بعزة وكرامة، فقدّمن المستحيل من أجل ذلك ولم تنكسر إرادتهن أوتستكين، فصبرن على الأهوال والآلام وسوء المعاملة سواء من الأزواج أو المجتمع، حتى تمّ لها ما أرادت بالصبر والمثابرة، وبالعمل المضني استطاعت أن تنتشل واقع الأسرة وتنقله من حال إلى حال.
(نساء) “حكايات حكاها الواقع حاكها الخيال” كما تقول الكاتبة، وهذا ما فعلته بالتمام والكمال فعكفت على صياغة تلك الحكايات وأنجزت كتاباً جديراً بالقراءة حتى يتعرف من لم يعش تلك الحقبة من الزمن على حال النساء والقيود المفروضة عليهن والحالة المزرية التي عشن فيها بفعل البؤس والتخلف والجوع والمرض ورفض المجتمع لتعليم المرأة، وأهمية هذه الحكايات تنبع من قدرة الكاتبة على إيصالها للقراء بأسلوب أدبي جميل وبسيط وفي نفس الوقت شيّق ومعبر وسهل الفهم للقراء.
كيف السبيل مثلاً إلى تصور مجتمع دون وجود لأولئك النسوة المناضلات من أجل لقمة العيش، كيف السبيل إلى تصور أبناء من غير أم رؤوم تبسط جناح الرحمة والمودة على أبنائها وتعود عنهم لتحميهم من غائلة الجوع والفقر والمرض، هذه الحكايات تجيب على هذا التساؤل، فالمرأة حضرت وبقوة ونفضت عنها غبار التخلف بفعل المجهود الكبير الذي قامت به تلك في زمن مضى في سبيل نيل العيش الكريم.
فالفقر كان يفترس معظم العائلات ويخنقها، وتحت وطأته تئن وتستغيث طلبا للمعونة وكان عمل المرأة ضرورة لسد رمق الأبناء ولو في أعمال بسيطة مقدمة العون للزوج لزيادة دخل الأسرة.
فالليالي والأيام مملوءة دائماً وفي كل مكان من ذلك الزمن بصرخة الجوع التي لا تنتهي، فالضجة التي يحدثها تُلزم الاسرة على البحث عن رغيف خبزها بكل الوسائل الممكنة، وهذا ما فعلته نساء الكاتبة. فقد كان يشقّ على المرأة أن تجلس وهي ترى أطفالها يتضورون جوعاً ولا تـهب لمساعدتـهم، وبالخصوص اذا كان الزوج مريضاً أو يعمل في الغوص شهورا بعيداً عن عائلته.
يمكن القول بأن تلك الحكايات أيقظت تلك الحقبة من ذاك الزمن، وأعادت المرارات التي طبعته واتصلت به لتبقي شرارته وهاجة للأجيال كي يعوا ما كابده الأولون من مشقة وعناء ليفسحوا في المجال للأجيال اللاحقة لتعيش مستورة الحال بعيداً عما كابده اولئك الأولون.
فطراوة تلك الحكايات تظل في الذاكرة الجمعية، وكأنها حكايات ماضٍ بينما هي حكايات واقعية وإن أتت بأسلوب أدبي ألبس تلك الحكايات ثوباً جميلاً، وهذا ما ميّز فوزية مطر في كل كتاباتها، فالدموع والأحزان والآلام التي عاشتها النسوة آنذاك لم تذهب هدراً بل كانت البذرة التي سكنت حنايا روح نساء الأجيال اللاحقة ليعشن حياة أكثر أماناً واستقلالاً بفضل كفاح النسوة المروية حكاياتهن.
لاشك في إنه كان بديهيًا أن يُصاب شعور المرأة الطبيعي من جراء ذلك الكدّ بالغم والكمد في أول الامر على الأقل، على أن هذه اعتبارات لا يمكن في وقت الفقر والجوع تغاضيها فكل شيء مضحى به لحساب العائلة والأطفال.
يستطيع القارئ للكتاب أن يستشعر بأن ما كٌتب يعنيه من قريب أو بعيد، وبالخصوص ممن يعيشون قرى البحرين الساحلية ورحلة المصيف السعفية على الساحل، وهنا تقول فوزية (للمصيف ألقه الخاص في حياة الفتيات والشابات بما يمنحهن من هوامش حرية في الحركة والتنزه لايحلمن بجزء منها في حياة المدينة. كانت القرية الساحلية جنتهن السنوية الموعودة التي يتطلعن لعودة أيامها طوال أشهر العام.)
فمن أعماق السنين البعيدة، كان لوقع هذه الحكايات أثر على تذكر واستذكار أحوال النساء وما لاقيناه من مصاعب وآلام وآمال وما قدمنه من تضحيات ، وكانت قلوبهن تضطرم بأمل عظيم مكتوم في الخروج الى واقع أفضل مما كانوا عليه. كن مجمعات على التفكير بأن رغد الحياة لن يأتي بسهولة دونما عناء وتضحيات ودموع وآلام، سخرن كل طاقتهن لتجاوز هذه المحن ناسيات كل شقاء، كانت المعاناة شديدة، فقدن كل إحساس بالفرح، أمهات وازواجاً وعشاقاً، ولكن ظلت شعلة الأمل مشتعلة رغم تلك الظروف العصيبة.
كتاب احتوى على الكثير من النماذج النسوية المكافحة، ألقت فيه الكاتبة ضوءاً ساطعاً على حالات أولئك النسوة، ولئن كان صحيحاً أن الناس يحرصون على أن يتمثلوا نماذج يسمونها أبطالاً، فإنه من الصحيح أن يكون الأبطال هم هؤلاء النسوة من خلال تلك الحكايات.
(نساء) عمل أدبي رشيق ومبتكر يقيم الصلات مع الواقع أجادت الكاتبة في تصويره وإخراجه بشكل مبهر.