هجر الناس المقاهي والنوادي والمنتزهات والتجمعات العائلية وكل مناسبات الاختلاط البشرية واقاموا في منازلهم – ربما – لفترة لم يشهدوها طوال حياتهم وذلك على اثر جائحة كورونا، بيد أن هذا المكوث الطويل في البيت والفراغ وقلة الأعمال وانعدام فرص التوظيف الرسمي والحر منذ فبراير الماضي، انتج قلة في الموارد المالية ووفرة من الوقت ومناخاً ملائماً لاستغلال المنازل واستثمار مساحاتها في الأعمال والهويات العديدة.
هذا المقال ليس مبنياً على الأرقام أو الإحصاءات، إنما على عددٍ من الملاحظات والمشاهدات والمتابعات الإلكترونية لعددٍ من المواقع المتخصصة في الزراعة وتنسيق الحدائق والاستزراع السمكي وتربية الطيور والدواجن والحيوانات وإقامة مناحل وخلايا النخل والاعمال الخشبية الجديدة وغيرها، وربما يصلح هذا المقال كنواة لتحقيق صحفي موسع ولدراسة شاملة لمعرفة حجم هذا الاقتصاد الجديد واثره على الدخل الوطني والاعمال المستجدة وغيره .
والواقع أن وراء كل عمل جديد قصة تشي بأن الحاجة هي أم الاختراع فعلاً، كما يقول المثل السائد ، وسمعت من احد الشباب البحرينيين أنه اتجه إلى العمل الحر من منزله على اثر خسارته لوظيفته كمهندس مدني في عام 2011، إذ تخصص في تصنيع السماد العضوي والمبيدات الحشرية الطبيعية في منزله. آخر قال إنه بدأ العمل بعد حصوله على تقاعده المبكر فكان أن توسع في حديقته المنزلية، وأقام فيها ركناً لتصنيع كراسي الحدائق ومشتلاً تجارياً، وكثيرون تخرجوا من الجامعات وجلسوا على رصيف العطالة ينتظرون الوظيفة لسنوات دون طائل، فلم يجدو مفراً في النهاية من ابتكار مصادر لأرزاقهم غير الطرق المعتادة والتقليدية
أعرف كثيرين عادوا إلى هوايات سابقة هجروها اثناء الحجر الطوعي أو القسري، أو استجابة لقرار الحكومة بالعمل عن بعد تفادياً للاختلاط والتجمعات، وقد وجدوا فرصاً للتعلم والتدريب واكتساب مهارات جديدة بالمجان على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة كالرسم والتصوير وأعمال الجبس، حتى اسقف المنازل والغرف المركونة والزوايا الصغيرة المهملة جرى استغلالها وتوظيفها في كثير من منازل أصحاب الدخل المحدود وتم تحويلها الى مساحات للرياضة على اثر اغلاق الصلات الرياضية العامة.
ولقد لعب الإنستجرام دوراً كبيراً في تعريف الجمهور بأعمال ومهارات الشباب الجدد وأفكارهم وابداعاتهم. قبل عدة أيام تعرفت إلى شابة بحرينية تعمل، هي وخطيبها، على إقامة الديكور وتزيين الغرف لمناسبات الافراح واستقبال المواليد الجدد، كلاهما يتجه إلى طالبي الخدمة بلا أدوات ولا معدات، يحملان هاتفهما وكمبيوترهما الخاص فحسب، الإنستجرام هو دكانهم ووسيلتهم للتفاعل والتعاطي مع الزبائن، وأما تلك المصورة الفوتوغرافية المتخصصة في تصوير أطباق الأكل للمطاعم والفنادق، فقد قامت بمنح متابعيها دورات مجانية للتصوير على الإنترنت فكسبت جمهورا جديدا ورواجا تجاريا ومزيدا من الخبرة في معرفة الأذواق المختلفة.
إن التنافس كبير وعلى أشدّه بين المبتكرين الجدد في سوق العمل الحالي للبقاء في السوق وتحقيق الاستدامة في العمل او الحرفة في زمنٍ لم تعد فيه الوظيفة أمراً سهلاً، وذلك لن يتحقق دون الابداع وتقديم كل ما هو مختلف وجديد وبسعر تنافسي.
ونعلم أن العمل الافتراضي الإلكتروني أو من المنازل في أي قطاع ليس مجانياً، إلا للأسر المنتجة ولمشروع برنامج خطوة للمشروعات المنزلية الذي ترعاه وزارة التنمية، لكن تفرض الدولة رسوماً تعدّ قليلة نسبياً للسجلات التجارية الافتراضية، وذلك لحماية حقوق الطرفين المستهلك وصاحب المهنة معاً، وربما تساهلت الحكومة مؤخراً وبسبب تأثير أزمة كورونا على الاقتصاد مع بعض الأعمال والهوايات التي تحوّلت إلى مهن تجارية مُولدة للمال، وتدار عبر الانستجرام وبدون رسوم، من هنا تجيء أهمية اليقظة والوعي بالنسبة للمستهلك، وما يُطمئن أن جميع هذه المواقع خاضع للرقابة الإلكترونية الحكومية، حتى وان كانت مجانية خصوصا مع انتشار وازدياد هذه المواقع وعدم تقيّدها بأي شروط، وقد لا تخلو من الغش والاحتيال أو التحلل من المسؤولية عند وقوع التجاوزات.
وكل يوم أتلقى على هاتفي النقال مواقع عديدة لتخصصات وأعمال تتضمن أفكاراً من صنع شباب وشابات بحرينيات تقع في مناطق مغمورة وبعيدة وخارج الأسواق المعتادة التي تأثرت بشدة جراء المنافسة غير المتكافئة مع هذه الدكاكين الافتراضية المجانية، أسعد لإبداعهم وأعيد نشرها على أكبر نطاق من باب الدعم والتشجيع، وأتوجه الى محلاتهم مدفوعة بحب الاستطلاع والفضول الصحفي واكتشاف الجديد، مسترشدة بخدمة ال GPS (الجي بي اس) – نظام التموضع العالمي) للوصول إلى أماكنهم على أرض الواقع.
حقاً إنه عالم جديد ومختلف ولا يزال مفتوحاً على شتى الاحتمالات.