منذ سنوات زاد هوسي باقتناء الكتب، أمام زيادة في ضيق الوقت لقراءتها، إلى أن حلّ علينا هذا الوباء في بداية انتشاره، فجلست إلى مكتبتي، لتنظيفها وترتيبها، وهنا صدمت بالعدد الكبير من الكتب التي اشتريتها وتنتظر دورها لأقرأها.
والحقيقة أن ما يحدث لي حين أدخل المكتبات والمعارض هو ضعفي الكبير أمام إغراءات الكتب. إذ تغريني أغلفتها، عناوينها، فهارسها، بعض أسماء كتابها، وموضوعاتها وغيرها من الأسباب التي تجعلني أقع مراراً وتكراراً ضحية لها، لكن هل هذا سبب منطقي لملء مكتبتي وجوانب أخرى من البيت بكل هذا الكم الهائل من الكتب؟
الأغرب أني في بعض المرات اقتنيت الكتاب نفسه مرتين، وحتى لا أشعر بالأسى على نفسي وعلى ضعف ذاكرتي، سارعت لإهداء النسخ الثانية لبعض الصديقات.
إن كان هذا مرض يفرزه نهم القراءة، فأنا مصابة به والحمد لله، وإن كان غير ذلك، فقد أردت فهمه للسيطرة عليه.
في زمن مضى كنت لا أشتري كتاباً، حتى أنهي قراءة الكتاب الذي بين يدي، ثم مع تزايد انشغالاتي بدأ هذا هذا النوع من الإدمان يتسلل إلي، وأسميه إدمانا لأنه مصحوب بشعور لا يمكن وصفه من اللذة، ويحضرني ما قاله الكاتب والناشر الأمريكي ألفرد إدوارد نيوتن بهذا الشأن، وهو أشهر جامع للكتب في فلاديفيا في زمانه: “حتى عندما تكون القراءة غير ممكنة، فإنّ مجرّد وجود الكتب في حوزتنا، ينتج تلك النشوة التي تجعل من شراء كتب أكثر مما يمكن قراءته روحاً تصلنا باللانهاية، نحن نحب الكتب غير المقروءة، كون وجودها يجلب لنا الشعور بالراحة، والأمن للوصول الفوري إليها”.
يذكر أن أ. إدوارد نيوتن هو ما يوصف في الثقافة اليابانية بكلمة “تسوندوكو” التي تعني الأشخاص الذين يجمعون الكتب لمجرد جمعها دون قراءتها. يكتفي التسوندوكو بصف الكتب في مكتبته، بحيث تستهويه العناوين الجديدة والقديمة في موضوعات متنوعة، فيسعى دوما لإثراء رفوفها دون إيجاد وقت فعلي لقراءتها.
نيوتن نفسه استفاد من هوايته هذه، وأطلق مسابقة للقراءة كانت الأولى والأشهر على الإطلاق في ثلاثينات القرن الماضي، بحيث أسست لقواعد القراءة في العالم لبرامج مماثلة اهتمت بالترويج للقراءة والعمل على تسويق الكتاب، كما أدخلت المكافأة النقدية للفائزين في سباق القراءة. ما رفع الكتاب من مرتبة “الكماليات الثانوية” إلى مرتبة الاستثمار الثقافي المربح.
مع انتشار نوادي القراءة اليوم في أغلب مدن العالم، نجد المدمنين على القراءة، أولئك الذين نحسدهم بشدة لأنهم يلتهمون كتاباً كل ليلة أو ليلتين، فيما نشعر نحن بالحاجة لحياة ثانية لنقرأ ما لدينا.
هناك كتب ترمقنا منذ سنوات من على رفوف مكتباتنا لنقرأها، ومع هذا لا فائدة، فهي تشبه أولئك الأشخاص الذين يستحيل أن يصبحوا أصدقاء لنا مهما حاولوا التقرب منا.
للكتب حظ، هذا ما أصبحت أؤمن به، وأنا أنقل الكتاب معي من غرفة النوم إلى الصالون إلى المكتب إلى المطبخ، إلى المطارات والفنادق، إلى قاعات الإنتظار، في محاولات فاشلة لقراءته. بعض الكتب هكذا عصية جدا على القراءة لكن ليس كنص، لأنها لا تنال شرف فتحها أو المضي في قراءتها حتى الآخر. لسبب أجهله كلما جلست إليها جاء حائل ليمنعني من اتمام القراءة، فأعيدها إلى الرف، وأنساها، عسى أن أعود إليها في مرة قادمة.
مضت سنوات على بعض الكتب وهي نائمة في الرفوف العلوية لمكتبتي، مع أني أذكر حماسي لحظة اقتنائها، ثم انطفاء ذلك الحماس بمجرّد قراءتي لبعض الصفحات مها. تبقى تلك الكتب شاهدة على فوز غيرها بالقراءة والتمحيص والمناقشة، لكن من على هامشها المنسي، تماماً مثل الناس التي لا حظّ لها، وهذا يشعرني بالحزن عليها، فلطالما وصفت بعض الكتب ب”المنحوسة” من باب لغتنا اليومية الساخرة، ثم شعرت بالإشفاق عليها.
دون انتباه، نعطي أبعادا جسدية للكتب، فيصبح بعضها جالباً للحظ، وبعضها الآخر “منحوسا”، لهذا يبدو لي أن الكتب التي تعطّل فعل القراءة لدينا يجب التخلص منها، فقد يكون حظها أفضل عند قراء آخرين.
في دراسة جميلة أثرتها تحليلات نفسية علمية، اكتشفت معنى “القارئ العاطفي”، وقد صنفت نفسي ضمن دائرته، وهو القارئ الذي لا يشعر بوحدته حين يقرأ، أو بتعبير آخر يطرد وحدته بالقراءة. لكن رأيا آخر شكّك في هذا المفهوم – وهو رأي علمي أيضا – وخالفه تماما معتبرا ” قراءة الكتاب بحث عن خلوة للإصغاء لأصواتنا الداخلية ” فأيّ الرأيين أصح؟
هل الإندفاع لاقتناء الكتب يدخل ضمن “هوس التسوق”؟ لردم ثغرة نفسية ما، أم أن الإقبال على الكتاب بهذه الطريقة له أسباب أخرى؟ هل يختلف المتهافت على شراء الأحذية والسّاعات وربطات العنق عن مشتري الكتب؟
تقول إحدى المهوسات باقتناء الكتب: “إنه أشبه بمحاولات الإقلاع عن التدخين، بعد ستة أسابيع من مقاطعة المكتبات، انهرت تماما، دخلت مكتبة واشتريت خمسا وعشرين كتابا دفعة واحدة..”
أنا شخصيا أشتاق للمكتبة، مع أني منذ فترة أصبحت أعتمد طلب قائمة من الكتب عن طريق خدمة التوصيل للبيت، لكني لاحظت أن التسوق أونلاين لا يعوّض أبدا متعة زيارة المكتبة والوقوع تحت تأثير إغراءاتها، ولعلّي أدركت بعد هذه التجربة أن “المكتبة” هي أحد أهم الأسباب الدافعة لنا لاقتناء الكتب.
غير ذلك أنا شاكرة لكل الذين قدموا لي هدايا على شكل كتب، منذ طفولتي إلى يومنا هذا، فقد ربطوا الكتاب بالمكافأة، وبهذا صنعوا له مكانة رفيعة لديّ، ويبدو لي أني حين أشتري مزيدا من الكتب مع معرفتي السابقة أني لن أجد وقتا لقراءتها جميعها، ما هو إلاّ سلوك يدخل تحت إطار المكافأة الذاتية.
يحدث أن نقع في حب كتاب، فنبحث عن كتب أخرى لنفس الكاتب، عسى أن نعيش اللذة نفسها، وإن لم يحدث، فذلك لا يحبطنا، بل يدفعنا للبحث في المواقع الشهيرة للقرّاء مثل “غودريدز”، عن كتب قد تثير انفعالاتنا وتحقق لنا ذلك الإمتلاء الذي نسعى إليه ونحن عالقون في سلسلة قراءات لا تنتهي.
ثمة سر آخر مرتبط بلذة الإمتلاك، فهذه الكتب تمثل ثروتي الصغيرة، لهذا أشعر بضرورة الحصول والحفاظ عليها. فقديما كانت الكتب ترفا يتمتع به قلة من الرجال، أما رفاهية النساء فتكمن في اقتناء المجوهرات، والأزياء الراقية، لكن أزمنة القراءة جعلت الكتاب يرقى لمستوى المجوهرات، وكما في الحكمة القديمة “خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود”، ها نحن عشاق رائحة الحبر والورق نخبئ كتابنا “الأبيض” ليومنا الأسود. ألم يحدث في أول الحجر الصحي أن استنجد كثيرون بمن يُموّلهم بالكتب لكسر روتين يومياتهم، بعد أن أصابهم الملل من هواتفهم الذكية؟ ألم يهزم الكتاب كل أنواع العواصف العاتية التي هبت في وجهه ولا يزال مستمرا بالحضور؟
هذا عزاؤنا الدائم، ونحن نتأمّل ثروتنا مصفوفة بعضها بعناية وبعضها بإهمال في بيوتنا. في مشهد جمالي يجذب من يحب القراءة ومن لا يحبها. زاوية تملأ قلوبنا بمشاعر الإمتنان والإطمئنان، وترسم حدودا شاسعة لما نملكه من أفكار وثقافات وعوالم معرفية.
أسمع كثيرا من الهمس أن المكتبات ليست بخير، دور النشر أيضاً، الكُتّاب يعيشون أزمة لا مثيل لها في تاريخنا المعاصر، لا أحد بخير في هذه الأيام تحديدا، لكن نظرة تأمل لمكتبتك الخاصة، ولكل تلك الكتب التي اقتنيتها – دون وعي – تجعلك سعيداً لأنك كنت دوما فعالا في إنقاذ صناعة الكتاب من الإنقراض.