في خاتمة مقال لي عن ذكرى مرور ثلاثة أرباع القرن على مأساة هيروشيما نوهت بأنه إذا كان من حسن حظ البشرية أن كُتب لها النجاة من حريق كوني نووي شامل يفني العالم عن بكرة أبيه؛ فذلك لا يعني البتة أن خطورته مستبعدة تماماً اليوم في ظل أوضاع عالمية مأزومة تشتد تأزماً وبؤر التوتر الدولي الراهنة المنتشرة في أنحاء كثيرة من كوكبنا، ولاسيما في منطقتنا العربية المعروفة بثرواتها وموقعها الاستراتيجي والتي لم تكن بمنأى عن حربين عالميتين مدمرتين خلال القرن العشرين، بل كانت واحدة من أسباب الصراع على اغتنام مناطق الهيمنة الاستعمارية فيها.
ولم يكن بأي حال من الأحوال التوتر الدولي الذي أفضى إلى اندلاع كلتيهما بنفس حدة التوتر الدولي الحالي؛ ويمكن القول تحصيلاً ولا بؤر التوتر المنتشرة على الخريطة السياسية للعالم المتشكلة حينئذ قبيل تلكما الحربين على درجة من الشدة كالتي تشهدها بؤر التوتر الدولي على خريطة العالم السياسية الحالية.
والأهم من كل ذلك نستطيع القول -بكل ثقة واطمئنان – بأنه حتى في العصر النووي الذي دشنته الولايات المتحدة في نهاية الحرب العالمية الثانية لم يكن العالم على مدى 75 عاماً مهدداً باندلاع حرب عالمية نووية كما هو مهدد الآن؛ وبخاصة بعد وصول الرئيس الأميركي اليميني المتهور دونالد ترامب إلى البيت منذ نحو أربع سنوات، واستغلاله جائحة كورونا لتسميم الأوضاع الدولية دون أدنى ترو واستبصار من مخاطر تصعيد حمى الحرب الباردة بين بلاده من جهة؛ والصين وروسيا النوويتين من جهة اخرى؛ دع عنك دولة شرق أوسطية هي على وشك الانضمام إلى النادي النووي.
ولتوضيح الصورة التي كان عليها العالم في العصر النووي الجديد، وتحديداً خلال الحرب الباردة بين الدولتين الكبريين النوويتين واللتين كان يتشكل منهما النظام الدولي الثنائي القطبية مقارنة بوضعه الحالي، حيث بات اندلاع أي حرب نووية؛ ولو كانت إقليمية محدودة، من شأنه أن يتحول إلى حريق نووي كوني. بل أن حتى القوتين العظميين النوويتين وفي أشد أوار حربهما الباردة طوال ثلاثة أرباع القرن لم تعدما فرصاً للتعاون المشترك ومحاولة تهدئة بؤر التوتر في العالم التي لهما في مناطقها نفوذ، ومن ثم العمل على تحقيق الإنفراج الدولي وتثبيت مبدأ التعايش السلمي بين الدول ذات الأنظمة الاجتماعية المختلفة.
سعى الاتحاد السوفييتي من جانبه للعب الدور الأكبر بالتعاون مع القوى والشعوب المحبة للسلام في العالم والمناهضة لتخزين الأسلحة النووية والتسلح. ذلك بأن الخسائر التي تكبدها الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الأخيرة من أسباب مساعيه لتفادي الصدام النووي، وهي خسائر لا تضاهى في حجمها المهول بخسائر غريمته الولايات المتحدة التي خاضت كل الحروب التي شاركت فيها أو بادرت إليها خارج أراضيها منذ تأسيسها.
ففي السنوات الثلاث الأولى من الخمسينيات إبان الحرب الكورية أمكن تجنب المواجهة النووية بين الدولتين العظميين، رغم ما لهما من تأثير ونفوذ لدى الكوريتين المتحاربتين. وفي العدوان الثلاثي 1956من قِبل كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر كان لإنذار الاتحاد السوفييتي – بصفته دولة نووية – دوره في ردع العدوان واخماد بؤرة توتر شرق أوسطية مشتعلة ينذر استمرارها بأشد العواقب الوخيمة.
وفي أوائل الستينيات – بعد سنوات قليلة من انتصار الثورة الكوبية – وازاء المخاطر الفعلية التي تحيط بهذه الثورة من جانب الامبريالية الاميركية التي كانت تهدد بالتدخل لإحباطها من خلال قوى الثورة المضادة الي تحميها وتدعمها؛ بلغ الأمر من صديقها الاتحاد السوفييتي لدعم الثورة الوليدة والخوف من إسقاطها أن لجأ إلى نصب صواريخ نووية في كوبا، أي على أي مقربة شديدة من خاصرة الولايات المتحدة ؛ ما أثار غضبها الشديد مهددة موسكو إن لم تنزع هذه الصواريخ، ولم تتردد عن قيام مقاتلاتها بمناورات حول هذه الصواريخ والقاء قذائف استفزازية بالقرب منها. ولكن في النهاية انتصر صوت العقل بعدما كان العالم على حافة أخطر حفرة نووية حقيقية بعد محرقتي هيروشيما ونجازاكي النوويتين اللتين ارتكبتهما الامبريالية الأميركية في نهاية الحرب العالمية الثانية.
وفي عام 1963 وقعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا معاهدة لحظر التجارب النووية في الجو والفضاء الكوني وتحت البحر. وفي العام نفسه تمّ تدشين الخط الساخن بين واشنطن وموسكو للتعامل مع الحالات المستجدة الخطيرة ازاء حدث يعنيهما في العالم. وفي عام 1968 وقعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي مع دول اخرى معاهدة حظر انتشار السلاح النووي.
وفي عام 1973 وقعت الدولتان النوويتان اتفاقية درء نشوب حرب نووية بينهما بين البلدين في هلسنكي المستجدة وبالإضافة الحالات والمواقف المشار إليها آنفاً التي شهدها عصر الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة والاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفييتي ثمة حالات ومواقف عديدة من النزاعات والحروب أمكن تجنب الاقتراب من الحافة النووية خلال ستينيات وأوائل سبعينيات القرن الماضي؛ كالحرب الهند الصينية (معركة نضال الشعب الفيتنامي للتحرر من الهيمنة العسكرية الاميركية)، والنزاع الإسرائيلي – العربي الذي شهد اندلاع حربين بين الطرفين في عامي 1967 و1973، وتوتر العلاقات بين القوتين العظميين جراء التدخلات الاميركية والعربية في الشأن الأفغاني على خلفية قيام نظام يساري في افغانستان، والحروب التي شهدتها منطقة الخليج العربي، وغيرها من المنازعات العديدة في العالم .
ويمكن القول إنه منذ مطلع السبعينيات دخل القطبان النوويان في مرحلة جديدة من الانفراج الدولي وتخفيف حدة التوتر بينهما بدءاً من توقيع اتفاقيتي الحد من الاسلحة الاستراتيجية؛ ومروراً باتفاقية الحدّ من الدروع الصاروخية وليس انتهاءً بتوقيع عدد من الاتفاقيات المماثلة خلال عهد جورباتشوف آخر رئيس سوفييتي مثل اتفاقية سالت 1 عام 1991 والتي تبعها سالت 2 عام 1993 غداة انهيار الاتحاد السوفييتي . ومن أبرز أمثلة التعاون في مجال الفضاء نشير على سبيل المثال لا الحصر إلى المركبة الفضائية السوفييتية “سويوز” التي التحمت مع المركبة الفضائية الاميركية “ابولو” عام 1975 كتعبير عن الرغبة المشتركة بين الطرفين في تخفيف حدة التوتر بينهما .
لكن لنقارن الوضع الذي كان عليه العالم في ظل الحرب الباردة زمن القطبية الثنائية بالحرب الباردة في زمن النظام العالمي الأحادي القطبية الذي تسعى الولايات المتحدة إلى فرضه من خلال نزوعها للهيمنة الكونية ! أليس سياساتها المتهورة وانفرادها بتقرير مصائر العالم بعيداً عن إشراك حتى حلفائها الغربيين يهدد سلام العالم بأسره ؟ لا سيما أن الولايات المتحدة ما زالت متمسكة بمخزونها من العتاد النووي؛ بل لاتتورع عن مضاعفته وتعزيزه.
والحال ما كان يمنع الإمبريالية الأميركية عن استخدام السلاح النووي لفرض هيمنتها الكونية لتحقيق مصالحها وجود دولتين نوويتين إشتراكيتين غريمتين لها ألا هما الاتحاد السوفييتي والصين فحسب، بل ووجود تأثير لاصطفافات عالمية وقوى دولية لم تعد اليوم موجودة أو ضعف تأثيرها، كحركات التحرر العالمية، وتكتل دول عدم الاتحياز ومنظمات السلم العالمية، واحتجاجات التسلح النووي الجماهيرية في أوروربا؛ كالاحتجاج على نصب صواريخ بيرشينج وكروز النووية الاميركية في القارة الاوروبية خلال الثمانينيات. وكل مراكز القوى هذه في العالم لم تعد – للأسف – بنفس الفعالية.
يخطيء بل يتوهم من يعتقد أن الولايات المتحدة لن تلجأ لاستخدام السلاح النووي بعد استخدامها له لإبادة سكان مدينتي هيروشيما ونجازاكي، فالدولة التي لم تتورع عن استخدام هذا السلاح ثانيةً بعد ثلاثة أيام من استخدامه على المدينة الأولى رغم علمها بما ألحقته القنبلة الأولى بسكان هيروشيما من فظائع وأهوال؛ والدولة التي خططت لإعادة استخدام القنبلة النووية ثالثة في حال ما إذا رفضت اليابان الاستسلام حتى مع قصف المدينتين؛ لن تتردد إذا ما لزم الأمر عن تجريبه ثالثةً في ظل الحرب الباردة الراهنة الأشد خطورةً.
ولن يجبرها على التراجع عن مثل هذا الخيار الجهنمي الشيطاني الذي يهدد العالم إلا إعادة تفعيل وبناء تحالفات قوى الخير والسلام والديمقراطية بدءاً من الولايات المتحدة في مواجهة قوى الشر والحرب.