كأن أهل لبنان الطيبين لايكفيهم ما فيهم، وما هم فيه يدير الرؤوس حقاً، والمدهش، المحزن، المبكي، أن مجريات الأمور فى لبنان كانت ولا زالت تمضي وفق برنامج واهداف ومصالح القابضون على الزمام سواء أكانوا فى الخلف او فى الأمام من أصحاب المصالح، وأرباب الفساد، لأن المصلحة الوطنية عند معظم من أوصلوه الى الحال التى هو فيها منذ سنوات طويلة وحتى الآن، تلغى الوطن وتجعل المحاصصة العارمة والعصبيات الفئوية، المذهبية والطائفية بديلاً عن المواطنة الحقة فى ظل زعامات عوراتهم السياسية، وكما قال د.سليم الحص، تتحدث عنهم ببلاهة ما بعدها بلاهة، جعلوا المذهبية مطية الى العلى.!
زعامات جعلت الاستقواء بالخارج، من ركائز الهيمنة والحكم والتحكم، والفساد السياسي ينخر بأغطيته ومنابعه المعروفة، وفاسدون فى ظل المحاصصة لا يكتفون بتقاسم الغنائم والمناصب والمنافع والصفقات، بل يحرّمون ايضاً محاسبة الفاسدين، ويعتبرونهم “خطاً احمر”، زجوا البلد فى صلب فساد مكشوف فى ظلاميته وظلمه، فى الفكر والتطبيق، فى الشكل والمضمون، فى الهدف والإسلوب، فى السياسة والمنطق، فساد استشرى فى حضن الطائفية السياسية التى باختصار عممت “قيم الفساد”، وجعلت آليات المساءلة والمحاسبة معطلة، وبذلك أوجدت المناخ المناسب للفساد، لكي ينمو ويكبر ويستبيح مقدرات الدولة، استغلها الطامحون الى سرقة الوطن ونهبه باسم هذه الطائفة أو تلك، وإلا فإنهم جاهزون لحرب أهلية، او فى أحسن الأحوال العيش فى حياة دائمة من عدم الاستقرار، فعلوا ولا زالوا يفعلون ذلك بكل بكل مثابرة ودقة وتصميم!
وجاءت كارثة الانفجار – انفجار ليس ككل الانفجارات – انفجار اطلق عليه “بيروتشيما”، إشارة إلى هيروشيما اليابانية التى نكبت بقنبلة ذرية قبل نحو 75 عاماً إبان الحرب العالمية الثانية، تفجير وتدمير وخراب وقتلى ومفقودون وجرحى بالالاف وتداعيات باهظة غير معروفة العواقب، وقيل بأن حجم الكارثة، ضحايا وخسائر ومحن وأزمات، جعل كل السياسيين متهمين إلى أن تثبت براءتهم، لا بريئين إلى أن تثبت براءتهم، ولعل هذا ما يفسر طرح تلك الشعارات التى تبناها ورفعها اللبنانيون، ومنها: “يوم الانتقام”، و”يوم الحساب”، و”عَلقوا المشانق”، كما عاد شعار “كلن يعنى كلن” إلى الواجهة، وغيرها شعارات عبْرت ما يشكو منه اللبنانيون من تسيب وفساد واعتلال الممارسة السياسية حتى أتى الانفجار المروع غير المتوقع ليكشف عن حال من الاهتراء الصادم.
انفجار مريع وغامض عمّق الجروح، ووسع نطاق المعاناة والمآسي على اللبنانيين، الذين هم فى بالأساس فى وضع منكشف من أعلى الى أسفل تلازمت معه اسباب الانهيار، وكل أشكال الفساد والإفساد، والمفسدين والأفسدين، وسياسيون أدمنوا معاقرة الأفق المسدود، وسياسيون يتمسكون بكراسيهم ومواقعهم حتى لو تمّ تخريب لبنان عن بكرة أبيه، يرون أنهم يقومون بواجبهم، أويحققون ما يتطلب منهم من وراء الكواليس، لم يعد ما هو ملتبس عند أي من هؤلاء، حتى الميثاقية ، نسبة إلى الميثاق الوطنى اللبنانى، الذي وصف من قبل بعض أصحاب الفكر والرأي اللبنانيين بأنه بمثابة رشوة لكل طائفة، وشكّل قمة الفساد السياسي، والمأساة ان هناك من اعتبر الميثاقية مساوية وموازية للوطنية، بنظر هؤلاء المستفيدين من الوضع هو جوهر الوطنية، وعلى هذا الأساس حولوا الدولة إلى مزرعة ..!
فى وضع عبثي مثل هذا وصل إلى درجة أن أموال الناس أصبحت محجوزاً عليها فى المصارف، فى أبشع أنواع التعدى على الملكية الخاصة، من الطبيعى أن يثار السؤال الأول والأكثر غموضاً وتعقيداً: لبنان إلى أين، وإلى متى هذا الضعف الذى يصل إلى حدود العجز الكامل الذى لا يطاق، والذى من بين تداعياته مطالبة نحو 36 ألف لبنانى بعودة الانتداب، وهذه دعوة إن عبرت عن شئ بنصها وتوقيتها فهى تعبر بالدرجة الأولى عن عمق الأزمة التى يعيشها لبنان ويأس شعب لبنان.
نعود الى السؤال: إلى أين ..؟، أإلى مزيد من التعقيدات والأزمات، ومزيد من النزاعات ومظاهر الانقسام وتقسيم الوطن بين الأحزاب والفصائل والكيانات الطائفية والمذهبية، والمزيد من التدنى فى الوضع الاقتصادى وفى الأحوال المعيشية، وكل ما يضاعف أنين اللبنانين الطيبين والمقهورين، أم الى انفراج يبعث شيئاً من الأمل، وشيئاً من العافية يتكئ عليهما المواطنون فى وطن الثماني عشر طائفة، وطن كان ذات يوم ساحر الدنيا، وصاحب الحضارة والفن والذوق وواحة الإبداع وملتقى الأديان، وملجأ لطلاب الحرية ومن لا وطن له، او من ضُيّق عليهم الخناق فى أوطانهم، كما كان لبنان صوت القضايا العربية بتفانٍ، ولعل الهبّات الشعبية لنجدة لبنان فى محنته والتضامن معه فى هذا الظرف العصيب هي نوع من الإقرار بهذه الحقيقة .
المؤكد، انه لم يعد مقبولاً ولا ممكناً تدوير الأزمة وإعادة انتاج نظام أثبت فشله بامتياز، نظام يقوم على المحاصصة الطائفية التى اثبتت حضورها الفاعل فى ضخ الأزمات واستعادتها وإعادة انتاجها، وفقاً لما تقتضيه حسابات ومصالح البعض، تخيلوا حال لبنان لو لم يصبه الوباء الطائفي، ولم يبتلى بهذا الكم الكبير من أرباب الفساد، وجماعات جعلت مصلحتها تعلو على مصلحة الوطن، ونواب يفترض انهم يمثلون الشعب، عدم وجودهم خير وأبرك من وجودهم، وأديرت كل أمور البلد بعقل المواطنية، لا بدوافع الحسابات المذهبية والطائفية، وبقى هذا اللبنان مستقراً ومحكوماً دائماً بالأمل، وقبلة للحرية والثقافة والابداع، تخيلوا لو بقى هذا البلد على هذه الحال!
نخلص إلى أن تحصين المناعة الوطنية يجب أن يكون فى مقدمة أهداف اهل لبنان، وهذا التحصين يتم خصوصاً عبر رفض كل أشكال المحاصصات والحسابات الطائفية، وجعل لبنان وطناً نهائياً لجميع أبنائه، وبالقدر ذاته يتم عبر مكافحة كل فساد، ورفع أي تغطية عن كل فاسد، ورفض كل احتكار واستبداد واستثمار من أي نوع لكل ما هو طائفي ومذهبي.
مطلوب ان نتضامن مع لبنان، كما هو مطلوب إخراس الأفواه التى تنفخ فى نار الطائفية وتنال حصصها ومكافآتها العلنية والسرية، ومطلوب نبذ طبقة سياسية هتكت معنى السياسة، ومطلوب منا كبحرينيين ان نتعظ من دروس لبنان وان نقف وقفة حازمة تقطع الطريق على كل من يتاجر فى المبادئ والوطنية، ومن لازال يريد لنا الانشطار والانقسام والتأجيج وإحداث الشروخ الطائفية وإثارة النعرات الدينية والمذهبية، وتجاهل كل القواسم المشتركة وما أكثرها، ومن ثم إعادة انتاج المشكلات لنعيش الآمال الخائبة والحماقات المزمنة التى لا تجر علينا سوى الويلات والإنزلاقات وكل ما هو مرير ومعروف، وهذا ما يجب تذكره على الدوام.