لا أعرف كم منا مداوم على قراءة الصحف، الا أنني واثقة بأن أصابعنا تعبث بقنوات الراديو بين الحين والآخر أثناء السياقة ، أو حين البحث عن صوت غير أصوات رؤوسنا. ذلك الحنين لسماع الآخر قد يقودنا الى سماع برامج متنوعة كتلك المذاعة على مونت كارلو الدولية الإذاعة التي كبرنا معها ونحن نسمع تقارير الصحافية نزيهة سعيد ، وقادتنا الى فرنسا أو اقتدنا اليها. أذكر حوار دار بيني وبين الصحافي الجزائري علاء الدين بونجار منذ سنوات عن تورطه بمهنة الصحافة. كنت قد أعددت هذا الحوار للجامعة ومنحني شعور كبير بالتفاؤل في قدرة الصحافي العربي على إثبات نفسه أينما كان. استرجعت مضمون ذلك الحوار وطلبت من علاء أن يجاوب على أسئلتي الجديدة، فكان الحوار الآتي:
علاء الدين بونجار، أنت صحافي في إذاعة مونت كارلو الدولية، من مواليد الجزائر. حاصل على شهادات في الحقوق والإعلام. عرفناك ببرنامجك “أسبوع في فرنسا” الذي يهتم بالأحداث الفرنسية الداخلية والخارجية في تقاطعاتها مع العالمين العربي والإسلامي، أخبرنا كيف وصلت الى مهنة الصحافة ؟
في الواقع منذ الطفولة كان هناك شغف بالمطالعة والقراءة وأتذكر أن والدي كان مشتركًا بمجلات روز اليوسف، العربي، الجيل، الهدف، الصياد وغيرها وكنت في فترة الصيف اكره القيلولة فامضي ساعات في قراءة الأعداد القديمة. في بداية التسعينيات كان التلفزيون الجزائري ينظم برنامج منافسات تربوي اسمه “بين الثانويات” ويبدو أن طلاقتي في اللغة جعلت أساتذتي في مدينة العطاف يقترحون اسمي للوقوف أمام الكاميرا والتعريف بالمدرسة والمدينة، وقد كانت تجربة مرعبة من حيث التوتر والمسؤولية وكان هذا أول تواصل مع مهنة الصحافة.
حاولت دخول معهد الإعلام في العاصمة الجزائر، لكن سرعان ما صرفت النظر لأن دخول المعهد الوحيد في البلاد كان يحتاج مانسميه “المعرفة ” أي الواسطة، وقررت دراسة الحقوق والقانون لأنه كان عندي تصور أن مهنة المحاماة فيها تشابه مع الصحافة من حيث البحث والتحري وقدرات الخطابة والتحرير.
بعد أن انتقلت لفرنسا من أجل التخصص في القانون، كان الوضع مختلفا من حيث ظروف الدراسة في بلد أجنبي والركض اليومي وراء الوثائق الإدارية والعمل، أي ان كل ما قرأته عن حلاوة العيش في فرنسا اصطدم بواقع، التوفيق بين الدراسة والعمل.
فكرة اختيار مجال آخر للدراسة فرضت نفسها ولكن في جامعة اخرى غير السوربون ١ التي كان تستقبل أبناء الطبقة الميسورة وأبناء القضاة والمحامين، صحيح أنها جامعة ذات ثقافة يسارية وأحسن من السوربون ٢ وغيرها من جامعات اليمين وأقصى اليمين، لكن السوربون 1 كانت تنتمي لليسار الاشتراكي البرجوازي المنقطع عن الطبقات الشعبية وهذا جعلني أعيش حالة انفصام.
الاختيار وقع على جامعة السوربون ٣ وهي جامعة نشأت بعد انتفاضة الطلبة الفرنسيين في مايو٦٨ وقد كانت تستقبل أبناء الطبقات الشعبية وفيها أيضا طلبة أجانب من أفريقيا وأمريكا اللاتينية وهناك وجدت ضالتي ودخلت معهد الاعلام والصحافة لتحضير الإجازة والماستر وبعد دورات تدريبية في الصحافة المكتوبة والإشهار، والتلفزيون وصلت إلى الاذاعة حيث كانت أول تجربة مع إذاعة الشرق في باريس وبعدها إذاعة محلية إسمها البحر الأبيض المتوسط ومنذ العام ٢٠٠٦ التحقت براديو مونت كارلو.
لقد عملت و ما زلت تعمل في راديو مونت كارلو لفترة طويلة من الزمن، ما هي نقاط القوة التي تمتلكها هذه الإذاعة ؟
إذاعة مونت كارلو هي من بين أعرق المؤسسات الإعلامية االناطقة باللغة العربية وقد استطاعت ان تسافر عبر الأجيال طيلة 48 عامًا، وبأسلوبها ونمطها الاعلامي الجديد الذي يعتمد على الأخبار العامة والتفاعلية والترفيه والثقافة حيث استطاعت أن تتميز عن الأسلوب الصارم والنبرة الجدية لإذاعة بي بي سي، إذاعة مونت كارلو الشرق الأوسط هي روح وهي علامة فرضت نفسها لنحو عقدين من الزمن كأحد أفضل وسائل التواصل مع المستمعين العرب الشباب، في المغرب العربي لم نكن نستمع لمونت كارلو الا ليلا عندما تهدأ الموجات وكنا نحسبها اذاعة تبشيرية مسيحية ولكن علمت بعدها أن مجموعة أنجيلية أمريكية كانت تؤجر الموجات لبث نصوص دينية.
عندما وصلت الإذاعة عام 2006 كانت هناك قامات إذاعية مثل حنا مرقص، جورج نوفل، أحمد خطاب، عبد القادر خيشي، كمال كامل، عبد اللطيف شريف،غابي لطيف وفايز مقدسي رحمه الله وغيرهم من الأصوات التي عايشت الجيل الذهبي، أيام الثمانينيات والراحل حكمت وهبي وهيام حموي ورواد طربيه، وبالنسبة لنا كشباب كانت المسؤولية كبيرة في الحفاظ على الإرث وتقديم محتوى يتوافق مع العصر الجديد.
بالنسبة للأخبار، قوة مونت كارلو برأيي تكمن في مجال الحرية الذي يتمتع به الصحافيون في اختيار المواضيع وطرح الأسئلة واختيار الزوايا من دون أن تكون هناك إملاءات من المكلف بالتحرير أو الإدارة، الصحافي المحرر هو أبرز استحداث في مونت كارلو عكس التقليد الإنجليزي الذي يفصل بين المحرر والمذيع.
طبعا المؤسسة هي ذات تمويل عمومي يعتمد على وزارتي الخارجية والثقافة الفرنسيتين ولكنها تتلقى أيضا جزاء من أموال الضرائب وعليه مونت كارلو ليست إذاعة ناطقة باسم الحكومة الفرنسية بل هي إذاعة تعبر وتروج للمباديء التي تؤسس الجمهورية الفرنسية: الديمقراطية والحرية في التعبير وحرية المعتقد والمساواة وأيضا الاستقلالية، فلهذا يمكن لنشرة الأخبار في مونت كارلو أن تتناول بسهولة مواضيع تنتقد سياسة الحكومة.
هناك عامل أخر يعطي قو للإذاعة قوة وهو تنوع الخلفيات الثقافية والدراسية والجنسيات المختلفة، فهناك نحو 14 جنسية وكل هذا يوسع دائرة النقاش وفهم المواضيع.
مونت كارلو مثل كل المؤسسات الإذاعية تعاني أزمة وجود مع تراجع الاقبال على الراديو وتوجههم نحو التلفزيون والمنصات الاجتماعية، ومثل جميع المؤسسات هناك أزمة اقتصادية ومشاكل تمويل مع انخفاض الميزانية الفرنسية المخصصة للإعلام الخارجي وتوقف مداخيل الإعلانات، هذا دون أن ننسى أزمات التسيير حيث لم تتمكن الإدارات المتعاقبة من وضع مشروع تحريري يتأقلم مع التحولات الاجتماعية في العالم العربي ويرصد ذائقة المستمع الجديد الذي تستقطبه المنافسة القوية. حتى تجربة التقارب مع تلفزيون فرانس 24 بقيت حذرة ولم يتم طرح مشروع يؤسس لقطب فرنسي ناطق باللغة العربية يأخذ بعين الاعتبار خصوصيات التلفزيون والإذاعة.
نرى و نسمع الكثير من الصحافيين في الإذاعة و التلفزيون و كل منهم يملك مستوى مختلف عن الآخر، يا ترى كيف يستطيع الصحافي التفوق على غيره من ممارسي المهنة ؟
هناك عدة مدارس لتقييم عمل الصحافي وأدائه، فبالنسبة للمدرسة الإنجليزية، لا يوجد شيء اسمه معاهد تلقين مباديء الصحافة وبحسبهم الشخص يولد صحافيا أو لا، وبالتالي يمكن للمهندس أو الصيدلي ممارسة الصحافة ان رغب بذلك. بالنسبة للمدرسة الفرنسية، الصحافة هي مهنة مثل بقية المهن، يجب تعلم أساسياتها في المدارس المتخصصة، وحسب سمعة ونوعية التكوين يمكن أن يختلف أداء الصحافي.
كثرة الصحافيين ووسائل الإعلام في السنوات الأخيرة جعلت البعض يروج لعبارة “أن الصحافة هي مهنة من لا يملك مهنة ” على أساس أن هناك أشخاصا دخلوا الاعلام لأنه مجال سهل قد يعتمد على الشكل ومخارج الحروف السليمة، وفي اعتقادي هذا الكلام لا يجانب الحقيقة، على اعتبار الكم الكبير للدخلاء على المهنة.
لكن في الواقع، الصحافة هي مهنة ذات أسس علمية، ولكنها مهنة تتطلب خاصية أساسية وهي الروح والإنسان الذي بداخلنا. فقبل الصحافي يجب البحث عن الانسان. يمكن لأي شخص أن يدفع التكاليف ويحصل على الدبلوم من جامعة مرموقة ويصبح صحافيا ومذيعا مهنيا، لكن التفوق والتميز والتأثير يتطلب شيئًا إضافيا غير موجود في مقررات المعاهد وهو الإنسانية والصدق والأخلاق.
التميز يكون من خلال محاولة الصحافي قدر المستطاع ان يضع نفسه مكان الآخرين ونقل الخبر من دون خلفية وحكم مسبق، وهذا يسمى الحيادية. يضاف إلي هذا الفضول والبحث، وبدرجة كبيرة التواضع، لأن الغرور هو أحد أمراض الإعلاميين حالياً.
كثير من الكتّاب والصحافيين ينتابهم شعور عدم التقدير من قبل الحكومات والمؤسسات. هل أنت من الذين ينتابهم هذا الشعور ؟ و مالذي يجب فعله لعكس المعادلة ؟
طبعًا هذا الشعور موجود بقوة لاسيما عندما يصل الموظف إلى درجة من الارتقاء في السلم المهني داخل المؤسسة ويحس بأنه لن يستطيع أن يتخطى هذه العتبة، في الوقت الذي يرى فيه آخرين بنفس المهارات أو أقل بكثير يحصدون الثناء والمكافاءات.
للوهلة الأولى عند دخول مكان العمل لا ننتبه لهذا الإحساس وقد لانولي اهتماما لملاحظات من هم أكبر سنا وأكثر خبرة وامتعاضهم الدائم من مسؤول التحرير الذي لا يفقه شيئا ، وقد نقول في قرارة أنفسنا أن الشخص متمرد ولا يحسن العمل بصفة جماعية ، لكن مع الوقت وتكرار المحاولات وتأخر مجيء الاعتراف من قبل المسؤولين، قد نصل إلى نفس الإحساس والشعور .
منذ الصغر نسمع في المدارس عبارات المثابرة، العمل، الصرامة، الدقة ، ونظرتنا حول عالم الشغل تبدأ بفرضية قوية مفادها أنه إذا كان لدينا تكوين أكاديمي قوي وإذا كنا جيدين ومخلصين في العمل فيمكن أن ننجح. بعد فترة نصطدم بالواقع ونلاحظ أن الكفاءة ليست شرطا ضروريا للنجاح وقد نجد أن بعض المسؤولين هم غير أكفاء وليسوا متمكنين، ورغم هذا يبقون في مناصبهم وهنا نتساءل عن الخلل؟. الإجابة نجدها عندما نقرا التاريخ ومفهوم الكاكيستكوقراطية لدى الإغريق والتي تعتبر شكل من أشكال الحكم عن طريق الأسوأ، ونجد الإجابة أيضًا في علم الاجتماع و”مبدأ بيتر” القائل بأن كل موظف تتم ترقيته بسبب عدم كفائته لأنه سيبقى دائما مدينًا وتابعًا لمن منحه المنصب بينما المهني يقول إن الارتقاء هو نتيجة جهده. فكل فاشل يأتي بمن هو أفشل منه حتى يبدو الفاشل شخصا جيدا لعكس شعور عدم التقدير، يجب ببساطة عدم انتظار التقدير وعلى الصحافي ان يلتزم بأداء عمله حسب قناعاته وعليه أن يفهم أنه يمارس مهنة نبيلة يمكنها أن تحرك الخطوط وتدفع لتغيير الأمور
في رأيك، ما هو البلد العربي الأكثر منحاً لحرية الصحافة ؟ و لماذا ؟
تونس باعتقادي هي أحسن بلد لممارسة مهنة الصحافة في العالم العربي حاليا والفضل يعود لمكتسبات ثورة الياسمين حيث أسست عملية الانتقال الديمقراطي لبناء أسس منظومة إعلامية حرة، مستقلة ومتعددة، طبعًا مازالت هناك بعض الشوائب والممارسات التي بقيت من فترة العمل إبان المرحلة البوليسية كما ان الثورة دفعت بالكثير من الشباب لامتهان الاعلام بطريقة عشوائية ولكن هناك فرق بين ممارسة الإعلام في بدايات الثورة وفي الوقت الحالي وأنا متأكد أن حرية الصحافة هي من ابرز مكتسبات الثورة التونسية .
ما هي الجهود التي تقترحها كصحافي لتعزيز حرية التعبير ؟
حرية التعبير هي قيمة أساسية لمعرفة تطور أي مجتمع وهي تشمل حق نقل الخبر والحصول على المعلومة بدون قيد أو شرط، وأيضا الحق في ابداء الآراء والأفكار وحرية المعتقدات الشخصية، والملاحظ ان هذا الحق يكون منقوصا سواءا في المجتمعات التي تملك تقاليد ديمقراطية أو غيرها. هناك دول قليلة جدا في العالم تملك حرية إعطاء الدروس للآخرين في مجال حرية التعبير واحترام الصحافيين لأن معظم النظم وإن اختلفت أساليبها تحاول أن تضبط وتراقب.
ولهذا فإن تعزيز حرية التعبير، برأيي، يبدأ أولًا بأن نسلم بعدم وجود تجربة إعلام مطلقة وبعدم وجود حرية تعبير مطلقة ونشاهد في فرنسا مثلا أن وسائل الإعلام الكبرى وبالرغم من تنوعها فهي تروج لخطاب معين وتتناول زوايا محددة. وثانياً، حرية التعبير هي ثقافة منعدمة في مجتمعاتنا العربية وعلينا أن نبدل العقليات وأن نربي أولادنا في البيوت قبل المدارس، على حرية التعبير، فبدل أن نوبخ الطفل من دون شرح ونأمره بالامتثال دون نقاش، علينا الاعتماد على الحوار والتفسير والاستماع، لأن طفل اليوم هو رجل وسيدة المستقبل. وأصدقك القول أن الفرد الذي تربى على الخوف وعدم ابداء الرأي في البيت سيصبح فردا بالغا بنفس إحساس الخوف داخل مجتمعه أو في مجتمع اخر حر وديمقراطي.
في الأخير يجب علينا كأفراد وإعلاميين ألا نحصر مصادر معلوماتنا على الوكالات والصحف ، فهناك مع وسائط التواصل الاجتماعي، كم هائل من المصادر البديلة والمستقلة التي توفر معلومات تسمح لنا بفهم العالم من زوايا مختلفة
في الختام ، هل تعد لمشاريع صحافية في الأفق ؟
هدفي هو التحرر من الراتب الشهري الذي أعتبره عدو الصحافي الأول فهو الذي يقهره ويجعله يتحمل رداءة الاخرين . هناك العديد من الأفكار التي كتبتها في السابق والتي تدور في رأسي حاليًا وأرغب في تحقيقها عبر وثائقي مصور. مهنة الصحافي هي فن ومثلما يترك الكاتب مؤلفًا والرسام لوحة، يمكن للصحافي أن يترك أثرا
لديّ فكرة وثائقي عن المقابر في الدول العربية، أعتقد انه سيكون من اللافت معرفة كيف تهتم مجتمعاتنا بالأموات والمقابر، ربما هذا سيعطينا فكرة عن مكانة من هم على قيد الحياة.
.