أجَلْ لا يزال للذكريات طعمَها المُر، رغم الحياة المُرفَّهة التي يعيش في ظِلالِها، والاحترام الذي يبديه له الجميع.
إنَّه جرح عميق يرفض أن يتوقَّف عن النزيف، في قلب ينوء بِحِمله الثقيل، حِمَل الطفولة المُرَّة، وعذاب الأمّ سوداء البشرة!، تلك التي لم تعشْ يوما سعيدا قط، منذ مولدها وحتى اللحظة التي اختارها الله إلى جواره، رحمة بها من ظلم أقرب الناس إليها.
فتح درج المكتب، وأخرج الصورة المؤطَّرة. ما أرقَّ هذه الملامح، وأطيب هاتين العينين. لقد عاشت المسكينة مأساة حقيقية، فما كادت تنعتق من شرِّ والدها الأميّ عصبي المزاج، حتَّى بُليت بوفاة زوجها طيب القلب، وبطفل يتيم منه لا حول له ولا قوُّة، لتعود مُجددا لبيت أبيها فيضيق ذرعا بهما، ويدفعها لأوِّل رجل يطلب يدها، كالخرقة البالية التي يودُّ التخلُّص منها، موقعا في نفسه أنَّها لا قيمة لها، لتكتمل بذلك مأساتها قتامة وبؤسا، وتعيش معه بقيَّة عُمرها ذليلة، مستضعفة.
وعلى رغم تفانيها في خدمته، والعناية ببيته، وعلى رغم فنون الطهي التي كانت تجيدها، فتسيل لعابه ولا يشبع منها، كان يعاملها كالمتاع، ولا يترك يوما يمرُّ دون أن يشبعها لوما وتقريعا، وضربا، ولم يلبث أن كافأها بالزواج من أخرى، أعانته على امتهانها.
لقد أجبرها وابنها على الانتقال إلى الغرفة القذرة، الحارَّة صيفا والباردة شتاء، الخالية من الأثاث، ليقيم هو مع الزوجه الأخرى بيضاء البشرة!، في الغرفة الواسعة، ذات الفِراش الوثير، والستائر المخمليَّة، والكنبات الملوَّنة.
غير أن اليوم ليس الأمس، وإذا كانت المسكينة المستضعفة، قد ألهمَها خوفها عليه وإشفاقها من ضياع مستقبله، أنها لا حيلة لها سوى الصبر، فإنَّه اليوم، قوي بمالِه ومركزه.
لقد حقَّق معجزة بكلِّ المقاييس، فلم يدر بخلد أحد، أنَّ الطفل ضعيف الجسم، ذو الهدوء المُضجر، والسكوت المُريب، يمكن أن يصبح مالكا لمؤسّسة ضخمة، يديرها بكفاءة واقتدار، مُضاعفا أمواله بشكل مهول يوما بعد آخر، مجتذبا إليه كل طامع في المال والجاه. وها هُما الشابان المُدلَّلان، صنيعة الزوج القاسي والضُّرَّة اللئيمة، ينتظران في الخارج، كأيِّ ذوي حاجة يطلبون رِفده وإحسانه.
إنَّ المال، وحده قادر على إرغام أنفيْهِما في التراب، وإلاَّ فمَن يصدِّق أنَّهما بطبعِهما الناريِّ، وصلفهما وغرورهما، يمكن أن يقبلا بالانتظار كلَّ هذا الوقت! لا شك أنَّهُما يُؤمِّلان الكثير، ويرجوان أن يفتح لهما أبواب الغنى.
وإنَّهُما لأحْمَقين كبيرين، بل فاسِدا المزاج، يحسبان كُل شيء رهن بإشارتهما، حتَّى عواطف الناس وأحاسيسهم. يظنان أنَّه غرٌّ ساذج، يسهل خداعه، رغم ذكائه في اسثمتار الأموال!. لقد حقَّق ما عجزا عنه، صحيح، لكنه الحظ لا أكثر، ولو أنَّ الحظَّ ابتسم لهما كما ابتسم له، لمَلكا الكون والعباد.
وطرق سمعَه طرق خفيف على الباب، وأطلَّت السكرتيرة، محرجة:
– أنا آسفة.. لكنَّهما يُلحَّان في…
وقاطعها قائلا:
– فليدخلا.
ودخلا. يا سبحان الله. طول أبيهما وعرضه، دمامة وجهه، لم تستطع أمُّهُما أن تورثهما شيئا سوى لؤمها وطبعها الناري، وزادت فأفسدتهما بتدليلها، فلم ينجحا في شيء، لا شهادة ولا كفاءة تخوُّلهما العمل!.
صافحَهُما بسرعة، وأشار إليهما بالجلوس، وتعمَّد أن يسأل:
– أين أوراقُكما؟!
صمت الأول للحظة ثم قال مُحرجا؟
– ولماذا الأوراق؟
ردَّ ساخرا:
– وكيف أعرف ما يناسبكما من عمل؟
ردَّ الثاني:
– نحن مستعدَّان لأيِّ عمل تراه مناسبا.
قال والسخريُّة لا تزال على فمه:
– لكنها مؤسسة تقوم على الاستثمار، وتحتاج للخبرة والشهادة.
ردَّ الأول:
– يمكننا أن نتعلَّم بسرعة.
سكت هنيهة، ليشعرهما أنَّه يفكِّر في وظيفة مناسبة، ثم قال بهدوء:
– عليكما أن تبدآ من الصفر إذن.
قالا في صوت واحد:
– تأكَّد أننا سنكون عند حسن ظنِّك.
قال:
– حسن، إذهبا لرئيس الموارد البشرية وسأخبره بالأمر.
كانا في غاية السعادة، صافحاه وقبل أن يمضيا، التفت الأوَّل إليه قائلا في ابتسامة واسعة:
– هل يمكن أن نعرف ما نوعية الوظائف التي اخترتها لنا؟
وكان باستطاعته أن لا يقول شيئا، وأن يترك الأمر لرئيس الموارد، لولا أنَّ صورة الرجل الفظ، زوج أمِّه، وهو يهوي بكفِّه الخشنة عليها، فيدمي أنفها، وسط بكائه هو، وشماتة الضرَّة البيضاء، وضحك هذين الجروَين، كانت واضحة الألوان والظلال…
– فرَّاش ومراسل.
صاحا بصوت واحد:
– ماذا؟!
وأردف الأوّل:
– أتهزأ بنا؟!
سألْ مبديا استغرابه:
– لماذا تقولان ذلك؟!
ردَّ الثاني:
– ألم تجد غير هذه الأعمال تجود بها علينا؟
قال ساخرا:
– ما الوظائف التي تناسبكما؟ رئيس قسم مثلا؟! أتريدان الخسارة لي؟
ردَّ الأول:
– لكن…
قاطعه بحدَّة:
– اسمعا.. قلتما منذ قليل أنكما مستعدَّان للعمل من الصفر، وها أنا أمنحكما فرصة يتمنَّاها الجميع، فإما أن تقبلا أو تنصرفا.
تطلَّعا إليه بعيون مليئة بالحقد، أكَّدت ظنونه بسوء نيِّتهما. لقد جاءا يجسُّان نبض الولد الطيب، الذي يسهل خداعه، واللعب على عواطفه، ولم يتصوَّرا أنَّ قلبه يمكن أن لا يصفح عنهما.
حاولا أن يقولا شيئا، لكنَّهما فضَّلا الانصراف. وقبل أن يخرجا من المكان، وصلهما صوته:
– الوظيفة بانتظاركما متى أحببتما.
وكان يعلم جيدا أنَّهما لن يأتيا مرَّة أخرى، إذ لا جلد لهما على مشاقِّ الحياة، ولا تربية تعينهما على التفكير السليم، ولا عقل يشير عليهما بالتخطيط للمستقبل، لقد عاشا بليدين، حتَّى ترسَّخ الغباء طبعا فيهما. فمن أين لهما بقوَّة الإرادة التي تجعلهما يبدآن من الصفر؟!.
وأخرج الصورة مرَّة أخرى من الدُّرج، وغمرته عاطفة سامية تجاه أمِّه سوداء البشرة، تلك التي تحمَّلت الكثير في سبيل تربيته، وتعليمه، حتى صار إلى ما هو عليه. وإنَّه ليشهد صادقا على نفسه، أنَّها لو عاشت حتَّى اليوم، لعوَّضها عن كل سنين العذاب، ولأفنى ما تبقى من عمره، خادما لا يطلب شيئا سوى رضاها عنه.
تمت