في مطلع التسعينات أدرتُ مجلة نسائية تعنى بالموضة والعطور والمجوهرات وكل ما له صلة بالاقتصاد الكمالي إجمالا، وقد تلقيت في هذه الفترة العديد من الدعوات لزيارة دور الأزياء ومصانع العطور والحقائب والأحذية والساعات الفاخرة وحفلات مسابقات اختيار ملكات الجمال، انا القادمة من صحافة الخبر والرأي والتحقيق وجدت في هذا العالم فرصة للاسترخاء والهدوء والتغيير بعد سنوات من العمل الصحفي اليومي المضني، في هذا العالم المظهري بدا كل شيء جميلاً وزاهياً وبراقاً.
الإنسان في هذا العالم يحمل عنواناً ومعنى ما يقتنيه وما يرتديه، لا أحد ينظر إلى وجهك، أو يستمع إلى قولك او فكرك، وهو عالم يروق بالطبع لممتهني هذا النمط البذخي ولعشاقه ومريديه والمنغمسين فيه. “عالم رائق” كنت أقول لنفسي، أو هكذا تصورت. لقد وجد أهل المال الوفير والاستعراض المظهري والزهو والتباهي ومحبو الشهرة ضالتهم فيه، إلا أن الممعن فيه والداخل إلى عمقه لن يعدم وجود التنافس الشرس بين أطرافه وابتكار الألاعيب لخداع المستهلك وتضليله استجابة لشغفه وتلهفه وجنونه على التميَز والتفرد المظهري.
ونحن نقول في أمثالنا: “رزق الله على المجانين”، وليس عشاقه مجانبين فحسب بل مستعبدين ومستلبين بوعي او ربما دون وعي، فهو يعيشون في فضاء من التصنع اليومي المرهق والضاغط على الأعصاب والبعيد عن التلقائية والبساطة، فالإنغماس فيه يعني أن تصير جزءاً منه وملتحما به ومواكبا لمتغيراته ومعطياته كل يوم، والا أصبحت غريبا وشاذا ودخيلا ولا حقتك العيون المستهجنة، وبدوت في اجوائه كتائه ضلّ الطريق.
اقمت مسافة بيني وبين هذا العالم المصطنع المتكلف ليس لأنني لا امتلك القدرة المادية على مجاراته فحسب، بل لأنني لا انتمي له من الأساس ولا امتلك المزاج والوقت لربط نفسي بعالم السلع والبضائع، وآخر صيحات الموضة والجري جري الوحوش لملاحقة عالم استهلاكي متطلب وضاغط، على العكس من ذلك التزمت في كتاباتي بمراقبة هذا العالم ونقد أساليب الموضة المستعبدة للإنسان، كما انتقدت النهج الغبي الذي سار عليه الفقراء ومتوسطو الدخول في محاكاة عالم ليس لهم، ولا قدرة لهم على مجاراته، وصدق القائل: “الماركة صنعها الأذكياء لسرقة أموال الأثرياء فصدقها الفقراء”
وذات مرة تلقيت دعوة لحضور حفل للفنانة العالمية جينفر لوبيز في دولة خليجية، وفي التفاصيل أسعار غرف الفنادق والوجبات وسعر بطاقة الحضور وفرصة للقاء الفنانة المرموقة وتلقي هدية شخصية منها ممهورة بتوقيعها، ووجدت التكلفة الإجمالية تعادل خمسة أضعاف راتبي الشهري، هاتفتهم واعتذرت، وبعد عدة أيام تلقيت رسالة بالبريد تتضمن شكراً من الفنانة، وبداخلها الهدية الموعودة التي لم تكن سوى محبس نحاسي بسيط مزدان بفص زجاجي، استفسرت عنه في سوق المجوهرات لاحقا فقيل أنه لا يساوي شيئا.
انني استذكر هذا العالم – الذي أمضيت فيه ما يقارب العامين – وأنا اقرأ عن انحسار وانكماش الاقتصاد الكمالي تحديدا، وإلغاء المعارض والمهرجانات ومواسم عروض الأزياء والمجوهرات، وتدهور مبيعاته وإغلاق فروعه والاستغناء عن موظفيه على أثر جائحة كورونا كوفيد 19، وتساءلت: أهي دورة اقتصادية معتادة ام مؤشر على انقضاء مرحلة بكل انماطها وسلعها ووظائفها وقدوم أخرى جديدة مختلفة ومغايرة ؟