لا شكّ أن لكل شاعر عتاده اللغوي الخاص، لكن في زاوية ما من زوايا ذاته، يختبئ عصفور أزرق مثل الذي أخبرنا عنه الشاعر تشارلز بوكوفسكي، والذي حرص على إخفائه مخافة أن يخرج و يخرّب أعماله، وينسف مبيعات كتبه في أوروبا، هذا الطائر المسجون في قفص قلبه، كان أداته السحرية للإستمرار في الكتابة، ولأنّه الأول والوحيد الذي باح بهذا السر، فإنّنا لن نعرف أبداً هل كان هذا الطائر دخيلاً على قلبه أم أنّه وجد هناك منذ ولادته؟
برع بوكوفسكي في وصف طائره الخفي، وهو الذي مثّل دوماً حزنه الخاص، وقلقه، وقلّة رضاه على نفسه وما حوله، وصف قسوته أيضا على طائره، وفي ذلك إشارة واضحة إلى قسوته على نفسه، وجعلها دائما حبيسة ألم ما حتى يحافظ على سيولة كلماته، إذ يبدو أن أدبه لم يكن نابعاً سوى من أوجاعه الخاصّة، وآلامه التي حرص على رعايتها بدل التّخلُّص منها مثلما يفعل الناس العاديون.
تحيّن بوكوفسكي كل فرصة للحزن ليغرق فيها ويصنع منها نصوصا إستثنائية، إعتبر الحب كلباً من الجحيم، وأقرّ في أحد كتبه أنه مستعد لقتل من يأخذ سيارته، لكنه لن يفعل ذلك أبدا إن أخذ أحدهم امرأته، مع أنه في موضع آخر يرفض أن يمتلك رجل امرأة ” إننا لا نملكهن ولكننا نستعيرهن لبعض الوقت”.
كل كلمة كتبها بوكوفسكي مستفزة، ونافرة من السطح المعهود للكتابة الملساء التي تعجب قراءها وتصنع معجبين كثر لها، لقد اختار أن يسبح ضد التيار بمزاجه القلق الدائم التعكّر، كان مقتنعا أيضا أن الحصول على الكراهية المجانية ممن حولنا دليل قاطع على أننا أنجزنا المهمة بشكل جيد.
حافظ على تلك القناعات حتى آخر يوم في حياته، كما ظل مقتنعا أنه شاعر حقيقي وبعيد كل البعد عن “الشعراء المزيفين” الذين يجدون شقوقا يندسون منها إلى المشهد الشعري، هناك الكثيرون منهم في جميع المدارس يقول، هم شعراء محتالون، ينتهي بهم الأمر إلى الإختفاء، لأن قوى الحياة تسحقهم تحت أي شيء…!
يُروى عن الشاعر الغزير الذي ترك آلاف الصفحات المسوّدة أنه يكتب قصيدة كل يوم، وأنّ الشّعر بالنسبة له هو ثروته وعبقريته الجمالية، إذا ما قسنا حياته التي كانت تشبه حياة الأشباح، لا شيء مذهل فيها، رجل يتسكّع في الشوارع، يدخل الحانات، يجلس إلى مكتبه ليكتب الشعر، يقودنا معه أحيانا إلى طرق مسدودة وأماكن عمياء، ينفذ هو ويتركنا أمام غموض لا نفهم منه شيئا، ثم يخبرنا حكاية عصفوره الأزرق، حكاية أخرى لا تدخل العقل إلاّ بإسقاطات نجتهد لإيجادها لتقبل الرجل.
عاصفة الشّعر تبدأ ببوادر خفيفة، مثل عواصف الطبيعة، ترسل الإشارات لتفاديها أو مجابهتها، حتى تبلغ ذروتها، يحدث أن يفرّ البعض من وجهها وهم في بداية تلك التحوّلات التي تنسف بكل ما هو هش في لهاثهم، يبقى الشعراء إلى آخر رمق عالقين في قفص لا نراه، يقفون على مسرحهم ويؤدون دورا غريبا، لا أحد يُصدّق أن المعتوهين منهم سيكونون أكثر صمودا من غيرهم، إلى أن يكتمل العرض باكتمال حياتهم.
هل يستحق الشعر كل هذا الإبتذال في الحياة؟ هل يستحق الإنطفاء في الحانات، تحت وهج السجائر وروائح الكحول؟ هل يستحق الطائر الأزرق العذب كل تلك القسوة وهو مدفون في أماكن لا ترى الشمس؟ ولا تهب عليها نسائم الطبيعة الطليقة؟
يعترف مجنون الشعر هذا أن الظروف الفتّاكة بأعماقه وحدها قادرة على صناعة الشعر، تماما كما اعترف قبله رسام فرنسي شهير هو هنري تولوز لوترك بأن الحانات والشراب والأماكن الوضيعة وحدها تجعله يرى الألوان جيدا، فعاش حياة مشابهة لشاعرنا، سجن فيها نفسه، ولم يستطع الخروج منها، لدرجة أن البعض أشفق عليه لأن الفن كان يمص منه نسغ الحياة وكأنّه هو الأداة وليس سيّدها.
المرض الذي أصيب به لوترك جعل منه “فرجة ” للناس، حتى أن صوراً بالعري أخذت له ليتسلّى مشاهدوه بسحنته الغريبة، في هيئة طفل بلحية، بالطبع كان محظوظاً حين تبناه فنيا بعض أقاربه، لكن جرحه العميق ظلّ حبيس نفسه، طائره الأزرق خاصّته، محنته التي تقاسمها مع روحه القابعة في جسد أتعبه، حتى أنه يعرّف الفن التشكيلي على أنه ” قذارة نشعر بها ولا نستطيع تفسيرها ” وهذا ما لا يمكن أن يتقبله إنسان لديه أدنى حد من الإحترام للفن.
الرّجل الذي انتقد على أيامه حتى في نوعية لباسه وجد ما يسخر به من منتقديه: “أنت لا تموت من ثقب في ملابسك إلا إذا كنت غوّاصا” قاصداً طبعا لباس الغوص القديمة الشبيهة بالبرميل.
سخريته اللاذعة، لسانه الحاد، وساخته، ووقاحته، ظلّت لصيقة بسلوكه الغريب إلى آخر لحظة في حياته وهو يرمق والده الأرسطوقراطي بنظرة رافضة رغم أن الأب كان حزيناً لأجل إبنه، فقد دللته العائلة واحتوته، رغم رفضه للطريقة المخملية التي يعيش بها أفرادها. مات بمرض الزهري الذي أصيب به من معاقرته لبيوت الدعارة، وهو في ريعان شبابه (36 سنة) ومن الكحول التي كان يتناولها دون وعي، وقد مثل لغزا حقيقيا لمن أراد فهمه، كان من الصعب رؤية مغارته السرية التي يخفيها في أعماقه والتي يعتكف فيها كائن شفاف يعشق الألوان ويرفض الخروج منها رغم معرفته الأكيدة أنها تقوده لهلاك حتمي.
ماذا يفعل الفن بصاحبه حين يطغى عليه؟ هل هناك حرب بين الفنان أو الشاعر وذاته المبدعة؟ هل هناك خط فاصل بين الإثنين؟ هل هناك طريق عودة للخلف قبل التّورُّط في هزيمة واستسلام ومازوشية غريبة يجد فيها المبدع لذة لا منتهية؟
كل الأجوبة تضعنا في مواجهة حقيقية لطغيان “الطائر الأزرق” على الشاعر، وهو يتحوّل شيئا فشيئا إلى درع واق لطائره، فيما اعتقد طويلا أنه كان يقسو عليه…!
حماية المغارة التي تحوي كنز اللغة أو الألوان، مهمة شاقة، نعرف تفاصيلها، لكننا لا نعرف السبيل لتخفيف تأثيراتها القاتلة، بعض الشعراء لا يعرفون إلاّ بعد موتهم بسنوات، وأهم الرّسامين في العالم تباع لوحاتهم بأثمان باهظة بعد أن يغادروا الحياة، معروف منذ الأزل أن المقربين من البلاط يعيشون من شعرهم، أولئك المزيفون الذين كان يمقتهم بوكوفسكي، والذين جعلوا لوترك يخرج من طبقته المخملية فعلياً، دون أدنى أسف على الرّاحة الجسدية التي كان سيحظى بها على الأقل خلال عمره القصير.
في مجمل القول سواء توقفنا عند بوكوفسكي أو لوترك أو غيرهما، مثل بودلير أو رامبو أو نرفال، فإنّ الخلاصة ستكون مبنية على صعوبة الفصل بين الحقيقة والوهم في حياة هؤلاء، بين ما يعيشونه في الواقع المشترك بين الناس جميعا، وما يعيشونه بالموازاة بينهم وبين أنفسهم، وهو عالم كامل يقتسمون بعضه مع جمهور عريض لكن من الصعب على هذا الجمهور أن يصدّقه، من الصعب جدا أن يصدق قصّة العصفور الأزرق…!