تغريدة غطت ذلك اليوم بالسواد، “سلمان زيمان في ذمة الله”… تمنيتها اشاعة مثل تلك الإشاعات القبيحة التي تطال المشاهير بين الحين والآخر، ولكن مع الأسف ليست أكذوبة. شلّت الصدمة عقلي وأخذت مشاعري شيئًا فشيئًا تستوعب الفاجعة. رحل عمي سلمان! هذا الرجل الحنون الدافئ دفء صوته الشجي. عرفته البحرين فنانًا راقيًا ومعلمًا حنونًا ودؤوبًا ووطنيًا شغوفًا، وعرفته أنا ككل ذلك وأكثر، فقد عرفته أيضًا كالرجل الخلوق والصديق الصدوق لوالديّ، والعم الأبوي الحنون فأي حظ جميل حالفني لأنعم في حياتي بهذا الشرف العظيم.
فأخذني “الطائر الهيمان” في زورق الأحزان المبحر في دموعه لعش الذكريات الغالي ذاك الذي عنه رحلنا منذ رحل عنا الزمن الجميل، زمن “أجراس”. تذكرت والشوق يغلبني لقاءاتنا. وبما أن “دمع الدفاتر حبر”، قررت رثائه بهذا الحبر الافتراضي ومشاركتكم هذه المحطات التي جمعتني به لتعرفوه كما عرفته تكريمًا لهذه الروح الجميلة التي فقدناها.
الكويت، 1988 – حتّمت علي الحياة الفراق عن والديّ ووطني لدواعٍ علاجية، لم يتوان عمي سلمان الذي كان مقيمًا في الكويت آنذاك عن خلق الوقت لإخراجي من جو مركز التأهيل وأخذي معه لشقته للعب مع سلام وأيمن. قد تبدو تلك بادرة صغيرة لكن تأثيرها كان كبيرًا على طفلة في السادسة من عمرها.
الكويت 1988 – تستحضر حواسي رائحة البحر في شاليه صديق العائلة الكويتي العزيز “أبوسلام”: وليد الرجيب وأنا مع عائلتي التي تسافر لي برًا كل نهاية أسبوع. تستحضر مخيلتي منظر البحر الأزرق على صدى صوتك يا نسمة بعزّ القيظ، وانت تغني بشجن يا بو سلام (البحريني) على شريط الكاسيت للألبوم الجديد، “ولي في ربوع الشمال غرامٌ”.
البحرين، 1989 – بعد خضوعي لعملية جراحية، عدتُ للبحرين ورجليّ مجبرتين بالكامل، فغدوت غير قادرة على الحركة أو اللعب خلال مدة التعافي، حينها زارني عمي سلمان وفي الدقائق الأولى من الزيارة وكأن فطرته الموسيقية طغت فجأة، “ليش ما نعلمها تعزف موسيقى؟”، والتفت الي: “عمي شرايج نعلمج تعزفين مثلنا؟”، وما كان منه الا أن عاد بعد يوم حاضنًا آلة أورغ ليهديني إياها، وبعدها أخذت أول درس لي على يد شقيقه المايسترو خليفة (أبو زياد)، ومن هذه النقطة بدأ شغفي بالموسيقى الذي أضفته بعد سنين لقائمة الهجر والأحلام المنقوصة وخذلاني لنفسي.
البحرين، 1990 – 1993 حماس طفولي وفرحة عارمة تغمرنا ونحن بأبهى حلة وكأنه يوم عيد ونحن نحضر مهرجانات “أجراس” كلنا فخر أننا لسنا كغيرنا من الحضور، فنحن نعرف الفنانين. يصدح صوتك كلما تذكرنا تلك الأيام فنحن تربينا نتطلع “للولد بوالفعايل” وعلى دروس “يمّه أرضك”.
فكانت “أحلى الليالي وأحلى الأيام” تلك التي كان يزورنا فيها عمي سلمان و”أجراس” ومجموعة الأصدقاء الرفاق على مدى أواخر الثمانينات والتسعينات. كان يفيض بيتنا الصغير المتواضع في مدينة عيسى بالدفء والحب وتصدح الضحكات والطرب والنقاشات في التاريخ والسياسة والوطن، نقاشات منها المفرح المفعم بالأمل ومنها المبكي المليء بالألم والقهر والخوف مما يخبأه المستقبل.
وعلى الرغم من عدم قدرة عقولنا الطفلة آنذاك استيعاب أحاديث الكبار، إلا أننا كنا نمتص كل الشغف والحب والحميمية، نمت فينا هذه الصداقات التي كنا نراها أمام أعيننا احساساً بالأمان، لأنه على الرغم من ندرة وجود أمان الصداقات الحقيقية بإنسانيتها وأفلاطونيتها، طاهرة من العقد والمواريث البالية التي تدنس كل ما هو بريء وطاهر. وعلى الرغم من أن هذا الأمان قد لا يحمينا في كبرنا من قذارة العالم الا أنه مكننا من السعي لخلقها والأمل في خلق عالم أجمل.
البحرين، ١٩٩٩ – ٢٠٠١ – وكما شاءت الحياة عندما انتقلت لمدرسة جديدة لاستكمال آخر عامين دراسيين من الثانوية العامة، كانت المفاجئة الجميلة مصادفة مدرس الموسيقى عمي الحبيب سلمان، وكأن الأقدار شاءت أن تعيد ذلك الحظ الجميل لحياتي. وفي آخر عام دراسي لي عندما تعثر معي إيجاد طريقة لإنهاء ساعات خدمة المجتمع التي كانت تتطلبها المدرسة للتخرج، عرض علي عمي بو سلام مساعدته في الفصل. وفي أول يوم لي معه، وبعد أن امتلأ الفصل بطلاب الفصل السابع، بدأ الأستاذ سلمان حصته معرفًا بي باللغة الإنجليزية:
”This is Amal. I know her since she was one day old! She is like my daughter. And she will be helping me in class to finish her CAS hours for graduation.”
(هذه أمل، عرفتها منذ كان عمرها يوم، وهي بمثابة ابنة لي، وهي في الفصل كي تساعدني لاستكمال ساعات الخدمة التي تحتاجها لتتخرج.)
وعلى قدر ما شعرت بالإحراج بحساسية المراهقين الهشة على قدر ما شعرت بالاحتواء والحنان في كلماته وافتخرت بها. وبعد الفصل عاتبني بحنان ورفق على عدم مواصلتي تعلم البيانو.
انتهى العام، ووقفت على المسرح مع زملائي بقبعة ومعطف التخرج نغني نشيد الخريجين، وعاهدت بوسلام مع زملائي بكلماته وألحانه قسمًا أن “أرفع راية الحق خفاقةً في الأعالي” و “أروي زرعكِ حبًا بالدم أفديكِ بلادي.”
وتوالت السنين والتقينا في ساحات الفن والنضال والاحتفال، وفي كل مرة يغمرني ثغرك البسام ودفء صوتك وهو يحييني بكل حب “هلا بنتي!”
كم سأشتاق لسماعها بصوتك وابتسامتك ولكل هذا الدفء والحب … شكرًا عمي سلمان
تعازيي الحارة لأحبائي خالتي أم سلام، سلام أيمن ودعيج، أجراس والعائلة والمحبين، تعازيي للبحرين،
“كل أمر سهل من دون الوداع….كيف أنا باودعك”.. لروحك السلام حبيبنا بو سلام.