نادية الملّاح
أوّلُ الكلام صمت!
(….)
سأسرّ لك بشيء…
أنا أحترم الصمت كثيرًا
وأقدّس هيبته
ولا احاول قط المساس بحرمته،
فهو الصومعة التي يتبتّل فيها العابد والزاهد والعاشق والمجروح
هو الدّير الذي تُقرأ فيه تراتيل الروح ولا تتوقف
حتى يعلو صوت جرس الحواس
لهذا ..
أعتنقه دينًا ومِلّة
وأركن إليه كثيرًا كلما حاولت الحياة صفعي أو التطاول على شعوري
أعشقه وأقدّسه
وأحتمي به من شر هذا العالم باسره
وأبتسم كثيرا وأنا في كنفه
تعلو ضحكاتي وتزداد شقاوتي
وذلك لفرط شعوري بالامان في حضرته
الصمت
باب الأمان وجنة الخيبات والحرمان
الصمت مآب المشتاقين والمحرومين
ومن حبره ساصوغ قريبا “رسائلي إليك”
تلك الرسائل التي هي همس الروح للروح
ومناجاة الأنفاس لخلايا الدم…
سأسطرها
قريبا
(1)
هي فتنة الوقت، فتنة الغربة،
فتنة الموت على قارعة النبض،
ورصيف العمر خاو إلا من أعقاب السنوات المحترقة بين أزقة الغربات…
ها أنت…
وها بين يديك رسالتي الأولى التي كم آثرت ألا اكتبها كي لاينال من نفسك حزن أو ألم
كيف بي وقد فاض بي الوجع حتى بات سيلا جارفا… طوفانا يقتلع مني النبض حد ألّا يُبقي ولايذر ..
أتدرك أنك وسامي الذي أتقلّده فخرا وتباهيا؟
أتدرك أنك عالمي الذي أحياه مختزلة فيه الكون بأسره؟
ثم… هل تدرك حجم الخذلان لقلب امرأة تكسّر وقتها أمام بوابة انتظارك؟
هل تعرف أية خيبة تقتلنا حين يخذلنا العالم… أنت عالمي فكيف يمكنني استيعاب غياب الحياة عن رئتيّ… !؟
لا لوم ولا عتاب
لكنها زفرة موت تخنقني وتطبق أصابعها على عنقي
(2)
لن أسألك أين أنت؟
ولن أقولَ لك: ما الذي سرقك منّي؟
الحقّ أني فخورة بك… فخورةٌ جدًّا لأنك ( رجُلي) الذي اختاره القلب والعقل
فخورةٌ لأنك حصني الذي أتململ بين ذراعيه كلما توعّدتني الحياة بألمٍ ما
ولأنك الرّجل الذي أرى من خلاله العالم كله
لذا… أرى العالم كلّ يومٍ أجمل…
كنتُ أبدأ بك يومي، وأختتمه بصوتك الذي أحب،
ومابين صوتك وصوتك، تبقى رسائلنا تتهادى شوقًا ودلالاً وأحيانًا فكرًا ونقاشًا
هكذا أحببتك، وهكذا سأظلّ أحبك…
(3)
الأيّام تتسارع،
تجري عبثًا، وأدرك أنّ اليوم الذي يتلاشى لا يعود،
صار اليوم يمرّ وأنا معلّقة في مشنقة الشوق والانتظار،
قلت لي: حبيبتي… سأحدّثك لاحقًا…
ابتسمتُ حينها وأبقيت على هاتفي بين يديّ،
سيشهق بعد قليل،
سينتفض حتمًا بفعل ارتجاف الشوق بين أضلاعي،
وحين يأتيني صوتُك سأقول لك ما يؤلمني،
وسأحكي لك عما أسعدني، وهل ثمة ما يمكن أن يسعدني سوى سماع صوتك!!؟
سأخبرك عن كلّ مادار في يومي من دونك… تمامًا كما كنتُ أفعل دائمًا…
أتدري…!؟
صرت أرسم خطوط يومي وملامحه على نيّة عينيك وأنفاسك،
وجهي، ملابسي، أحاديثي، كلّي…
مهلاً…
كأنّ ضوء الصباح تسلّل من نافذتي!!
أيعقل…!! مرّ يومي دون أن ينتهي ذلك( القليل) الذي وعدتني بأن تخابرني بعده
لابأس يا نور الروح
كن بخيرٍ وحسب…
(4)
لا أدري أين يكمن الخلل حقًّا،
هل هو في نبضي؟
أم في دقّات الساعة؟
لا أدرك حقًّا كم مرّ من الأيام والساعات والدقائق،
مؤلمٌ جدًّا أن تشعر فجأة بأنك لاشيء،
بأنّك مجرّد قطعة (ليجو) لسدّ فراغٍ ما،
أو رتق مساحة متصدّعة…
لماذ عليّ أن اكون الهامش المركون الذي يظلّ صامتًا،
ولا يمكن الرجوع إليه إلا حينما…
حينما ماذا؟ لا أدري؟
لكني أكره أن أكون عنصرًا لسدّ الثغرات وملء فراغات الروح،
وما إن يطرأ أمر ما حتى أركن في ( خانة الملاحظات)
أيضحكك هذا التشبيه؟
أم أنه يضايقك؟
صرت لا أراك ولا أسمعك… كأنك أمنية معلّقة بطرف نجمة،
وكأني جسرٌ معلّق على فوهة بركان…
لم أعد أنتظر…
لم أعد أعاتب،
لم أعد أضع نفسي في موضع العاشقة التي لها الحق كله أن تطمئن على معشوقها ولو بهمسة!
الواقع أني… لم أعد أنا…
(5)
لاملاذ أيها الوقت، ولا مناص،
حشرجة الغربة تصيبك بالسقام،
وتتركك رهنًا لمخالب الخوف، والوحدة،
بعيدا عن كل شيء،
فلتستسلم للوسادة،
حلمك من واقعك أرحم
(6)
أتوسّدُ يديْ،
أتوسّمُ أنفاسك التي تتصاعدُ عطرًا من بين أصابعي،
أقرّبها لوجهي أكثر، وأكثر، أكثر…
أتعقّبُ ملامحي بأطرافها،
ها أنتَ،
بالرّغم من مسافةٍ جائرة،
خلقها الوقت،
وتآزرت معه الحياة،
ها أنت رغمًا عنهما، وجهكَ لوجهي التصاق،
أراك في كلي،
وأبتسم كلما أغمضت عيني ورأيتُ ابتسامتك،
رجُلي،
عالمي،
أناي…
أسكنّي بين أضلاعك لعلي إن سكنتُكَ سكنت…
(7)
وماذا لو كنت بين يديك الآن؟
أستجمع كلي فيك وأختبئ بين أضلاعك…
أتدرك أيّ شعور بالأمان يجتاحني وأنا معك؟
وماذا لو ملكتُ أنا زمام الغياب؟
والصمت؟
والجفاء…؟
ماذا لو فتشت عني ولم تجدني حين تخفق روحك شوقًا…!؟
حتمًا لن تبحث عما يبرّر او يُبرّئ روحي من هذا الذنب،
بل ستقول ببساطة:… لقد تغيرتِ…
(8)
لماذا تصرّ الحياة على أن تثأر مني دائمًا؟
لماذا علي أن أحتمل المزيد؟
ولماذا… لماذا عليّ أن أظلّ بابتسامتي من أجل الجميع؟
أليس هناك ثمة من يبتسم لأجلي!!؟
ألا أستحق!!؟
أين ذهبت؟
انفرطت مسبحة الوقت من بين أصابعي…
تضاءل الزمن في عينيّ،
كلّ ماحولي فقد لونه ونكهته وملامحه،
عدتُ إلى نقطة الصفر تمامًا، أحاور وسادتي وجدراني الوفيّة جدًّا،
أسترسل في حديثي معها،
أتصدق.. إنها تبتسم لي أيضًا في بعض الأحيان،
في حين أنك تتوارى خلف قناع الوقت، والانشغال، والظروف،
وهذه الجائحة المقيتة لم أخف منها،
فأنت تعلم رباطة جأشي،
لكني صرت أحتقرها وأكرهها جدا… فقد كانت بارعة جدا في سرقتك مني
وأنت كنت حنونًا جدا معها،
بل كنت مستسلمًا لها حدّ أن لا شيء قد يقنعك أنها لاتستحق
ماذا عني أنا؟
ماذا عني وأنا التي فقدت كلّي فيك..!؟
(9)
أسألك؟
أم أسأل وجعي المستشري في كلّ أجزائي؟
أم أسأل قسوة الوقت وقلبك؟
كنت وما زلتُ على قناعة تامّة بأنّ من يعشق لا يستغني عن معشوقه بحال
لا يمتلئ راحة إلا برؤيته،
لا يزفر تعبه إلا بسماع صوته،
لكنك ابتعدت كثيرًا… كثيرًا جدا،
وحديثك اختار الكفاف بعد العفاف،
تخابرني وتظلّ صامتًا لا تجد ما تقوله، وربما لا تجد ما أستحق أن تصبّه في أذنيّ من حديث،
تغادر على وعد العودة،
اطمئن… لم أعد أنتظر…
أدمنتُ الغياب
أدمنت الوعد الذي لا يجيء
أدمنت موتي المقنّع بابتسامة كذب
لكني لا أملك أن أنتزعك مني،
ولم أعد أمتلك سوى دموع تغلبني وأنا أتصفح صورك،
نعم، لا تستغرب كثيرًا،
صار وقتي مأهولاً بصورك أتصفحها، لأبتسم، لأستعيد الحياة في دمي ونبضي وأفكاري،
كنتُ إذا تملّكني الشوق إليك أخرج على غير هدى،
أرتادُ الأماكن التي اعتادت أن تجمعني بك،
أطلب القهوة التي نحتسيها معًا،
ولا أستطيع أن أشربها لأن ضوء ملامحك لم ينِر عينيّ،
أتدري أيّ خذلانٍ يجتاحني الآن؟
لم يعد بمقدوري أن أقصد أيّ مكان،
أو أستعيد أية ذكرى،
لأنها باتت أشبه بمقصلةٍ تقطّع شراييني،
اشششش… أعرف ردك جيدًا
” عليك أن تقدّري الوضع”
وسأكرّر سؤالي:
وماذا عني أنا!!؟
أين أنا منك؟ ومن ظروفك؟ ومن انشغالك؟ ومن ومن ومن…
(10)
ربما تبدو حروفي أكثر إرهاقًا مني،
لكنّي لا أمتلك رئة سواها…
كن بخير حيث اخترت أن تكون