في ظل سيادة الاستبداد، لا يزال الخلاف بين الإسلاميين والعلمانيين مستمراً في المجتمعات العربية والإسلامية حول طبيعة نظام الحكم. تصر أغلب حركات الإسلام السياسي على رفض نموذج الدولة الديمقراطية أو المدنية، وتطرح نموذجاً بديلاً هو نظام الحكم الإسلامي، تحت ذريعة أن الحاكمية لله ووجوب تطبيق شريعة الإسلام.
من الملاحظ على حركات الإسلام السياسي أنها حين تطرح شعار نظام الحكم الإسلامي تتباين فيما بينها، فالإخوان المسلمين لهم نموذجهم الذي يختلف عن نموذج السلفية الوهابية والتي بدورها تختلف عن حكم ولاية الفقيه القائم في إيران. هذا التباين ليس شكلياً ومحدوداً، بل هو جوهرياً واسعاً. لذلك لا يوجد نموذج واحد لنظام الحكم وفق الشريعة الإسلامية، بل نماذج متعددة كل منها يدعي صحته ويخطىء غيره.
أغلب حركات الإسلام السياسي لا تؤمن بفكرة الدولة المدنية الديمقراطية وتعدها نقيضة لمبادئ الإسلام. بل يعتبرها البعض أنها كفر بالله، لأنه إلغاء لشريعة الإسلام واستبدالها بقوانين وضعية من عند البشر . مثلاً يرى أحد رجال الدين الكبار في البحرين أن نظام الحكم الديمقراطي يؤدي إلى ” استبعاد حقِّ الله (عزَّ وجلَّ) الذي له الحكم كلُّه، وبأمره تأتي سُلطة كلِّ مَن له سُلطة من بعده، وبسبب هذا يكون الحكم الدِّيمقراطيِّ مباينًا للحكم الإسلاميِّ من حيث البعد المنهجيِّ، لأنَّ الحكم الإسلاميَّ قائم على أنَّ الأصل في الحكم إنَّما هو لله (عزَّ وجلَّ) وحدَه، بينما الحكم الدِّيمقراطي يرى سيادة وحاكميَّة البشر بالأصالة”.
ومن المآخذ التي يأخذ بها الإسلاميون أيضاً في رفضهم للنظام الديمقراطي أن ليس للشعب سيادة تشريعية استقلالية، لأن سيادة الشعب منبثقة من إيمانه بالله، وبالشريعة السمحاء. ولذلك يرددون دائماً بأن منهجهم هو منهج الله، لا منهج الديمقراطية. لكن أليس وإن كان القرآن إلهياً يبقى التفسير والاجتهاد فيه بشرياً أيضاً، وإن اختلاف هذه المذاهب وأنماط الحكم ناتج عن الوضع البشري وحكمه على الإلهي!
بالمقابل عندما تطرح الأحزاب السياسية العلمانية ضرورة الرضوخ للنظام الديمقراطي ودولة المواطنة والحريات واحترام الأقليات الدينية والعرقية، ترتفع أصوات حركات الإسلام السياسي برفض هذه العناوين والأطروحات ووصمها بأسوأ النعوت من قبيل: الكفر، الإلحاد، ضرب القيم الإسلامية، التشبه بالغرب، محاربة القيم، تجهيل المسلمين.
غير أن هناك تأصيل منهجي في تراثنا لفكرة الحق البشري في اختيار نظام الحكم، وهو رأي المعتزلة الذي يرى أن وظيفة الحاكم ترتبط بشؤون الناس اليومية وليس بشؤون الله، فكان شرطهم أن يكون عادلاً، فيختارونه على أساس الاقتناع العقلي بعدله، وليس الاقتناع الروحي بفقهه أو مواعظه، إذ أن تلك وظيفة رجل الدين وليس الحاكم، وبهذا يتهافت الرأي القائل بأن العلمانية مرتبطة بالغرب والإلحاد، ولو قدِّر لحركة المعتزلة الاستمرار لرأينها تسقط فكرة التنصيب الإلهي وتنتصر شيئاً فشيئاً لفكرة التنصيب الشعبي للحاكم. هذا ما كانت تقوله أوسع طائفة فكرية في الإسلام حتى عهد المتوكل.
لكن لماذا تتسابق أغلب حركات الإسلام السياسي لخوض غمار سباق الانتخابات بمختلف أشكالها؟ يُجيبون على هذا السؤال بأنهم لا يريدون أن يكونوا مهمشين وبعيدين عن المشاركة في صنع القرار أو فقدان نفوذهم في مؤسسات الدولة والمجتمع. وعلى أرض الواقع تكاد أغلب الأحزاب الإسلامية والعلمانية المعارضة خارج دائرة المشاركة في المؤسسات الرقابية والتشريعية والتنفيذية بسبب سيطرة الحكم الواحد المستبد.
المساهمة في تثبيت الواقع السياسي القائم على الاستفراد بالسلطة وسيطرة القبيلة أو الحزب الواحد على السلطة ومفاصل الدولة، ليس حكراً على حركات الإسلام السياسي، بل يشاركها في ذلك مجموعة كبيرة من الأحزاب القومية والماركسية والاشتراكية(العلمانية). لكن يوجد فارق في خروج هؤلاء جميعاً على قواعد الديمقراطية، يتمثل في الجانب النظري، حيث يوجد قسم كبير من الأحزاب الإسلامية لا تؤمن من الأساس بفكرة النظام الديمقراطي، بينما الأحزاب الأخرى غير الإسلامية لا تنفي إيمانها نظرياً بالديمقراطية غير أنها تتناقض عملياً في عملها وسلوكها السياسي.
من الملاحظ كذلك على حركات الإسلام السياسي المنادية بتطبيق النظام الديمقراطي في بلدانها، تناقض حاضرها في رؤيتها للقيم الديمقراطية من تراثنا العربي الإسلامي. بمعنى أنها تنظر بإيجابية لتجربة الشورى في عهد الخلفاء الراشدين لكنها تقف مع الحكم المستبد في الحاضر . وهناك حركات إسلامية ترفض الحكم المستبد حاضراً لكنها تقف ضد الشورى وشروطها في مقابل تأييد الحكم القائم على النص والتعيين من تاريخنا العربي الإسلامي.
ولابد من الإشارة إلى أن العديد من الأحزاب السياسية العلمانية العربية لم تلتزم بقواعد الديمقراطية في حال وصول أحزاب إسلامية للسلطة عبر صناديق الاقتراع، وفي ذلك إجهاض لأي تجربة ديمقراطية وليدة من أن تأخذ مداها الطبيعي في التطور والتقدم. مثال ذلك ما حدث في مصر من عزل الرئيس محمد مرسي وضرب الأخوان بمساعدة قوى إقليمية ودولية، أدَّت إلى عودة حكم العسكر من جديد وإنهاء الديمقراطية.
الواقع السياسي العربي القائم على القمع والاستبداد، وعلى التمييز الطائفي والعرقي في أغلب الدول العربية، يستدعي من جميع الأحزاب والحركات السياسية بمختلف أطيافها العمل نظرياً وعملياً على الاقتناع بالنظام الديمقراطي وتثبيت قواعده في المجتمع والدولة، كأداة وآلية واقعية تعمل تدريجياً على نشر ثقافة المواطنة والتعددية والقبول بالآخر، ومن ثم الضغط على سلطة الدولة في التغيير والتحول من حكم الفرد أو القبيلة أو الحزب إلى نظام حكم عصري تعددي يشارك فيه جميع مكونات الشعب ويوفر لهم الحرية والأمن والعيش الكريم .
أما أن تستمر حركات الإسلام السياسي في موقفها التقليدي من الديمقراطية بشيطنتها وتكفيرها، أو بالتعاطي الانتقائي معها بما يخدم مصالحها، فتكون متطفلة على الحقل الديمقراطي، فذلك يُزيد من تعقيد الواقع السياسي سوءاً في دولنا، ويساهم في تثبيته، بدلاً من العمل على تغييره من أجل نهضة وتقدم بلداننا العربية.
ولعلي الوردي عبارة مشهورة عن موقف العرب من الديمقراطية “لو خيروا العرب بين دولتين علمانية ودينية، لصوتوا للدولة الدينية وذهبوا للعيش في الدولة العلمانية”. ويبدو أنه مصيب في ذلك