تعرفت إلى صديقي الراحل احمد البوسطة سنة ١٩٧٦ في مدينة “فارونيج” الروسية عندما وصل اليها لغرض الدراسة في كلية الصحافة. كان أحمد متأكدا من إختياره لهذا الاختصاص وهدفه أن يكون صحفيًا، ولم يتردد في ذلك كما كان يفعل العديد من الشباب.
كلنا كنّا نحن الطلاب العرب في عنفوان الشباب مشغولين بالتوهج الفكري والحماس لبلداننا العربية وتطورها وكان صديقنا الراحل أحمد البوسطة من هذا النوع بدون ان يتكلم بلغة خشبية أو يحب الظهور، ويدعي ما ليس له ويتفاخر لجل التفاخر، بل يحسن التعامل مع الآخرين بغض النظر عن معتقداتهم وانتماءاتهم الفكرية والحزبية لانه كان يؤنسن العلاقة مع الناس ويتميز بروح التسامح والطيبة مثل اغلب اهل البحرين الذين تعرفنا إليهم.
وكان أحمد شخصا ودوداً لبقاً يحب المزاح ويجيده، بالذات اذا شعر بتجاوب المقابل وبخاصة اذا فهم الطرفة واللعب بالكلمات والفرق بين اللهجة والفصحى. بالنسبة لي كعراقي لم تكن هناك مشكلة، بل تعلمت بعض المفردات البحرينية من صديقينا العزيزين شوقي الحسن ويوسف فاخر. وكنا نضحك كثيرا لبعض التعابير العراقية والبحرينية خصوصا والخليجية عموماً. كنا نعيش هذه الأجواء الجميلة بين الشباب العربي التي صور جانبا منها الكاتب السعودي غازي القصيبي في روايته “شقة الحرية”.
فكان الراحل احمد البوسطة لا يتعامل مع الانسان على أساس عرقه أو دينه او انتمائه الطائفي الذي اصبح اليوم مرضاً مزمناً مع الأسف الشديد، حتى ال”كورونا” لم تطح به لحد الآن، لكن “راح يجي يومه” إن شاء الله وتنتهي كل هذه النعرات الطائفية التي لا فائدة منها غير التشتت والتفرقة وإلهاء الناس عن التنمية والتطور وإشاعة أجواء المحبة والتعاون!
قد لا يصدق بعضهم وبخاصة من الجيل الجديد والشباب عموما بأننا لم نفكر أبداً بهذه الامور رغم الحرب الأهلية، ولحد الآن لا أعرف انتماء بعض الأصدقاء، وبالتأكيد كان الصحفي البارع أحمد البوسطة سيضحك لو سألته عن هذا الامر.
عاش الكاتب احمد البوسطة كل أيام عمره شخصاً طيب القلب بسيطاً متواضعاً مليئاً بالمحبة للآخرين، لم يلعب بوقته، يقرأ كثيرا، ثاقب النظرة، سديد الرأي، وطنياً بحرينياً وعربياً حتى النخاع، محباً للبحرين ووطنه العربي الكبير في كل شئ: الرياضة في الدول العربية وفي بلده البحرين حيث كان يلعب في فريق كرة القدم للشباب كما اتذكر، والمسرح والرواية، حيث كان معجبا بالكاتب عبدالله خليفة، وكان سببا في ان أتعرف على نتاجاته فيما بعد وان اكتب عن أعماله وبالذات رواية “الأقلف”.
والأكلات البحرينية كان أحمد البوسطة أيضا يفتخر بها ولم ينس حتى ان يحدثنا عن أكلة المجبوس البحرينية وأصر ان نأكلها ونحن في منزل الطلبة فما كان من زميلينا الطيب شوقي الحسن هو والصديق يوسف فاخر إلا أن تطوعا لإعداد هذه الطبخة، وافترشنا الارض لنأكلها بأيادينا على الطريقة البحرينية والعربية مستمتعين بالاجواء.
كان الراحل احمد البوسطة يتحدث عن كل هذه الموضوعات، وكان متقد الحماس إيجابيا بكل معنى الكلمة ترك لدينا في مدينة فارونيج انطباعا جميلاً رغم قصر مدة بقائه فيها حيث غادرها متجها للدراسة في لينينغراد /سانت بطرسبورغ !
وبقي كذلك كما عهدته لم يعرف الإحباط حتى في أحلك ظروف مرضه الأخيرة، يتحدث معي بالتلفون وكأنه لايعاني من شيء، سرد لي قصته مع المرض كلها منذ البداية قبل عدة سنوات وبكل تفاصيلها وإهماله للأدوية ما ادى الى تفاقم الامر، وكأنه يتكلم عن موضوع عادي للغاية، وأن اموره ماشية الان، لدرجة أني اندهشت! لكني فهمت من الأخت العزيزة رفيقة دربه أم فهد عكس ذلك. وهنا لابد من توجيه التحية لأم فهد التي سهرت عليه الليالي. لا أزال حتى يومنا هذا أتذكر آخر محادثة تلفونية معه كان فعلا متفائلا ووعدته بأن أزوره وفرح جدا بحيث سألني، “صج؟ بتجينا؟ يا ريت والله”.
لكن “كورونأ” قضت على “مراجلنا” وجعلتنا “نكرص” بمنازلنا! آخر مرة أردت أن أتحدث مع الصديق الراحل كانت عندما رقد بالمستشفى، واخبرتني أم فهد بأنه نائم، فتحدثنا سوية وتألمت كثيراً لأني لم أسمع صوته وأحاديثه الشيقة، وشعرت بالغصة والألم لكني لم أفصح عن مشاعري لها كي لا ازيد عليها متاعبها وشقائها.
التقيته للمرة الأخيرة هو وزميلنا الصديق العزيز شوقي الحسن في البحرين في فترة إصدار جريدة “الوقت” وكنت أشعر بوضعه غير المستقر ومع ذلك كان مواصلا ومجدا في عمله وكتاباته الرائعة!
وبفضل أحمد البوسطة وتشجيعه كتبت في صحيفة “الأيام” في التسعينات ومن بعدها “الوقت”، هكذا كان احمد البوسطة إيجابيا متفائلا محبا للبناء والخير والآخرين، فوقف معه في محنته الأخيرة ومرضه كل أصدقائه ورفاقه وبالذات الأطباء الذين تضامنوا وتعاطفوا معه، هبوا من كل حدب وصوب للمساعدة في حالته المرضية لأنه كان إنسانا بكل معنى الكلمة قبل كل شئ.
أتذكر انه كتب مقالا بعنوان “إنقاذ ما يمكن انقاذه” عن سقوط الاتحاد السوفييتي، وهو كعادته لم يرغب بالخراب اليباب لهذا البلد الذي درس وتعلم وتعلّق به وربطته بناسه وشائج كثيرة، فكان يتعامل مع الحدث أيضًا من ناحية إنسانية وسياسية لأنه يشكل خطرا كبيرا على الوضع السياسي في كل العالم.
اتذكر اني اتصلت به وقلت له مماحكا ممازحا إياه : “خلاص عيني احمد انتهى كل شي! يا إنقاذ ما يمكن انقاذه يا بطيخ”. صار يضحك كعادته وكنت اتصوره وانا أمسك سماعة التلفون مبتسما ابتسامته التي تعودنا عليها عندما يصغي إلى الآخرين والتي لم تفارقه حتى في آخر أيامه!
وداعا يا صاحب الفكر الجديد والقلم العتيد!
وداعا أيها البحريني الجميل!
وداعا يا أبا فهد الأصيل!