وهكذا توقف قلب أحمد ولم يتوقف نبضه المشع على من عايشه وعرفه عن قرب، نفس بهية، زكية، طاهرة، إنسان بسيط، رؤوف، حنون، محب يحمل هموم وطنه أينما حل أو ارتحل.
حمادي سليل عائلة معروفة بتعلقها بالثقافة والفن، فلا عجب أن يكون البوسطة ألمعيًا مثقفًا، ملتزمًا بمبادئه، حريص على نقائها وتطبيق ما التزم به من أفكار سواء في علاقته مع نفسه أو مع المحيطين به من عائلته أو أصدقائه، فأحمد لايتوقف عند حدود أو يتعب رغم الجراح ولا ينكس رايته، فقد ظلت خفاقة وفي أحلك الظروف، شخص مثل أحمد لا يقرّ بالهزيمة فقد نذر روحه وفكره للنضال جنبًا إلى جنب مع شعبه وفي أحلك الظروف رغم المصاعب والآلام، ظلّ وفيًا لمبادئه وأفكاره التي علمته كيف يقف صامدًا، شامخًا، مرفوع الرأس، هامته عالية دومًا وأبدًا .
يمكن لأي شخص أن يمرّ بلحظات ضعف في الحياة، الا أحمد البوسطة فلا تضعفه الانتكاسات ولا الإعاقات، ولا تخلي الآخرين عنه، فهو عفيف النفس لا يأبه للصغائر ويتسامى على الخلافات، يحمل روح وبساطة الأطفال وشقاوتهم البريئة أيضًا.
ظلّ مدافعًا صلبًا لا يلين عن أفكاره في الحرية والسعادة لجموع شعبه، لم يركن للدفاع عن طائفة أو حزب، فقد كان محبوبًا من الكل متواجدًا مع الكل وهدفه واحد وحيد هو إبقاء جذوة النضال مشتعلة لتحقيق أهداف شعبه التي نذر نفسه من أجلها ودفع فاتورة نضاله في محاربته كصحفي متميز عمل في العديد من الصحف المحلية ك “الأيام” و”الوقت” و”الوسط”، إضافة للصحف الخليجية ومن ثم الإعاقة التي أقعدته كليًا عن أي نشاط.
هذا الإنسان البسيط لم تغره المادة ولم تُغيّره السنون ولم تهتز له قناة، لم يطلب تكريما من أحد رغم كل الأدوار المميزة التي عرف بها، فقد كان حريصًا على إعداد كتاب عن مناضلي جبهة التحرير الوطني البحرانية، وظلّ وفيا لحزبه وعكف على تدوين سيرة مناضلي الجبهة وعمل ليل نهارمع ثلة من رفاقه لأكثر من عام، وقابل العديد من المناضلين لتدوين سيرهم وعذاباتهم، وسجّل أقوالهم بدقة وبحرفية العارف لطرائق طرح الأسئلة محاولًا معرفة المزيد وبأسلوب ينم عن مقدرة صحفية فائقة الدقة والمسؤولية بنقل الكلمة كما هي مقدرًا لدور كل منهم مستمتعًا ومنتشيًا بتلك الأدوار البطولية، فأبلى بلاء حسنًا في تدوين تلك الأقوال، إلا أن الظروف لم تمهله لإكمال ما بدأه، وخير تكريم له أن يصدر هذا الكتاب بعد استكمال ما قام به أحمد من جهد.
معرفتي بأحمد وعملي معه عرفتني على أسلوبه البسيط في الحياة، فعلى الرغم من إنه حاد الطباع إلا أنه رائع كقصيدة شعر، ملتهب المشاعر، حالم، مرهف الحس والشعور، لهفته للتضحية لا تقاوم من أجل عائلته وأصدقائه ورفاقه وكأنما يوهب حياته للآخرين، دون آبه بما قد يحدث له، ناكرًا لذاته يقبل بالقليل، زاهدًا في حياته، متواضعًا أشد التواضع مع الآخرين.
أحمد لم يستطع الزمن إفساد روحه، ولم يسمح لاحد تلطيخ مبادئه بوحل المادة التي أفسدت الكثيرين وأبقتهم بعيدين عما آمنوا به ونذروا أنفسهم من أجله، وظلت كرامته طريقًا للسمو والرفعة ضاربًا المثل للكثيرين على الإخلاص للمبادئ رغم الإغراءات.
ضخامة الآلام والقدرة على البقاء رغم الظلمة لم تثنه عن مواصلة الدرب العسير الذي وهب نفسه له فكان من الأوائل الذين أخذوا على عاتقهم تأسيس المنبر التقدمي، وكان أحد أعضاء اللجنة التحضيرية المكلفين حيث لعب دورًا رئيسيًا، فأشعل شمعة في عتمة الظلام لمواصلة النضال جيلًا بعد جيل لغدٍ أفضل، ولأجل وطن حر وشعب سعيد.
هكذا كان حال أحمد عندما تخرّج من قسم الصحافة من مدينة سانت بطرسبورج (لينينغراد) بالإتحاد السوفيتي وعاد إلى وطنه محملًا بالأفكار التحررية والتقدمية ليصيغ مشواره الصحفي استنادا الى تلك الحصيلة من الأفكار، واضعًا نصب عينيه إمكانية تطبيق ما تعلمه في الواقع العملي في وطنه، لذا فقد حرص أشد الحرص على أن يكون صحفيًا مخلصًا، متميزًا، دقيقًا في المادة الصحفية التي يُقدّمها رافضًا أن يملى عليه ما يريده الآخرون، وما يروه بأعينهم كما يقول، مما ترك لدى المسؤولين حيرة في كيفية ترويضه كما فعلوا مع غيره، فظلّ عصيًا عليهم، ناكفهم حتى أبعدوه ومع ذلك لم يستسلم أو يلين أو ينكسر.
هوذا أحمد إذن عاش شجاعا ومات بشجاعة ودونما إذلال، فقد صار ممن يؤثرون عيشة الكفاف على المذلة لأحد، وظلّ باعثه دوما حماسته لكل ما هو نبيل. أحمد ذالك الذى عرفته كان يدون ملحوظاته عن الناس العاديين الذين يلقاهم وعن مدرسيه وزملائه الطلبة، قوي الملاحظة، نافذ البصر قادر على وصف الواقع بدقة مهتمًا بالأدب أشدّ الاهتمام كما اهتمامه بالسياسة والصحافة. تعبيراته البليغة والصور الإبداعية في كتاباته تنم عن مقدرة وإحاطة باسرار اللغة الصحفية وعمق مدلولاتها.
نم قرير العين يا أحمد، فأنت معنا بروحك وبكتاباتك الجميلة وبكل ما قدمته من تضحيات، فلن ننساك يا رفيقي فأمثالك باقون، حتى وإن ذهبت أجسادهم تبقى أرواحهم محلقة، مرفرفة، بين محبيهم.