بين المقالات التي جرى تداولها للفقيد العزيز أحمد البوسطة بعد رحيله، مقالان نُشرا في جريدة “الوسط” في نفس العام، عام 2005، وإن كان يفصل بينهما بضعة شهور، فأحدهما نشر في يونيو، والآخر نشر في نوفمبر. وأمام المقالين نودّ أن نقف في هذه العجالة، كون كل واحد منهما يُعرفنا على جوانب من شخصية أحمد.
عنوان أحدهما هو: “الخنجر الأول كان في خاصرة رأس الرمان”، ويسعفنا في التعرف على البيئة التي ولد فيها ونشأ، في منطقة الرأس رمان، التي كانت واحدة من أهم رئات العاصمة المنامة على البحر، وكان الجسر الأول بين المنامة والمحرق يصل إليها. والمقال المذكور هو بمثابة رحلة في الذاكرة، ذاكرة المكان تحديدًا، حيث يستعيد الكاتب صورة المكان الذي فقدنا الكثير من ملامحه، بسبب التغيرات العمرانية الكثيرة، التي لم تخل من العشوائية، ولم تصن، في الكثير من صورها، البيئة البحرية المحيطة، لا في رأس الرمان وحدها ولا في المنامة وحدها، وإنما في مناطق كثيرة من البحرين.
المقال الثاني هو الآخر رحلة في الذاكرة، ولكن هذه المرحلة ذاكرة الأفراد، بمن فيهم ذاكرة أحمد البوسطة نفسه. وعنوان هذا المقال هو: “هو مشاغبات طلابية ولكن..”، حيث يعود بنا الكاتب فيه إلى مدرسة الحورة الثانوية للبنين في السنوات الأولى من السبعينات، وهي المدرسة التي أنهى أحمد فيها الثانوية العامة، حيث يذكرنا بزملاء له في تلك المدرسة، كنت واحدًا منهم، فيأخذنا، وقد بتنا كهولًا، إلى ذلك الزمن الواعد، الذي لم يكن فقط زمن “المشاغبات” بتعبيره، وإنما زمن الوعود والآمال الكبيرة، في مناخ مختلف عاشته البحرين يومها في اختمارات الوعي وإرهاصات التحولات.
من لم يقرأوا المقالين، كما مقالات كثيرة للبوسطة، متاحة على مواقع الصحف البحرينية على الإنترنت، عليهم أن يعودوا إليها، ففيها لا يمكن قراءة قضايا الحاضر الشائكة بكل ما تنطوي عليه من تعقيدات، وإنما مقدمات هذا الحاضر التي نشأت في رحم الماضي، وكان قدر جيلنا، جيل أحمد وجيلي وجيل المئات مثلنا، أن نشأ في خضمها.
“ليس كبار السن فقط في حي رأس الرمان، يقول أحمد، حتى الشباب منهم، يسجلون ذكرياتهم عن أيام مضت، ولا يزالون يحنون “للدود البحري” الذي اختفى، ولأمواج البحر التي كانت تلاطم “دولاب الباليوز” ومحطة الكهرباء ومسجد بن ساعد أو المسجد الكبير”.
المقال الثاني كتبه أحمد في صبيحة يومٍ كانت نفسه فيه، كما كتب في مقدمته، “مفتوحة لتنشيط الذاكرة حول وجوه تجمعت في صف واحد في مدرسة الحورة الثانوية”، ليرينا مصائر تلك الوجوه بعد هذا العمر الممتد، ويلتقط بحاسته اللمّاحة حكايات، ما كنا ننتبه لها في حينه، لأنها كانت تفاصيل عادية في حياتنا يومذاك، فإذا بالزمن يضفي عليها حكمة ومعنى ودلالة، فأتى أحمد ليمسك بكل ذلك، ويقدّمه مقطرًا في كلمات عذبة.
في المقال يذكر أحمد أسماء من زاملوه في تلك المدرسة، الذين كانوا يتبادلون الكتب التي صنعت وعيهم، مثل رواية “العقب الحديدية” لجاك لندن، وكتب سلامة موسى وجورج حنا، كما يتبادلون أشرطة الشيخ إمام، وفرقة “الطريق” العراقية، وأغاني “جعفر حسن، وجعفر علي، وفؤاد سالم، وعدلي فخري، وفرقة حب مصر وغيرها، ويحفظون عن ظهر قلب قصيدة الشاعر العراقي محمد صالح بحر العلوم: “أين حقي”. كان ذاك زمن آخر، له مذاق آخر، نحاول أن نستعيد بقاياه بعد أن فصلتنا عنه السنوات الطوال.
عاش أحمد البوسطة حياته كاملة حتى رحيله، بعد معاناة مريرة مع المرض، وهو وفيٌ لتلك الذاكرة بكل ما تمثله. ظلّ أميناً للوعي الذي زرعت بذوره في عقله الفتي آنذاك، وخاض الاختبارات الصعبة في الحياة، كما في الصحافة، التي راكم فيها خبرة طويلة تمتد عقودًا، بين الامارات والبحرين، وسيظل اسمه ناصعًا في تاريخ الصحافة البحرينية، كاتبًا صاحب عبارة ساخرة، شجاعة، جديرًا بأن يقدّم كأبرز مثال على الصحفي الوفي لرسالة الصحافة، التي لم يرها يوماً منفصلة عن الحياة، وراهن دائمًا على اشتباكها مع قضايا وطنه ومجتمعه وأمته، هو الذي ظلّ في خضم تلك القضايا، ولم يقعده عنها إلا المرض.